ثم علل نزول العذاب بهم ، فقال : (ذلِكَ) الوعيد (بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) أي : بسبب أنهم آثروها عليها ، (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) ، الذين سبق لهم الشقاء ، فلا يهديهم إلى ما يوجب ثبات الإيمان فى قلوبهم ، ولا يعصمهم من الزيغ. (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) ؛ فغابت عن إدراك الحق والتدبر فيه ، (وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) الكاملون فى الغفلة ، حتى أغفلتهم الحالة الزائفة عن التأمل فى العواقب. (لا جَرَمَ) : لا شك (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) ؛ حيث ضيعوا أعمارهم ، وصرفوها فيما أفضى بهم إلى العذاب المخلد. قاله البيضاوي.
الإشارة : من سبق له البعاد لا ينفعه الكد والاجتهاد ، ومن سبقت له العناية لا تضره الجناية. ففى التحقيق : ماثمّ إلا سابقة التوفيق. فمن كان فى عداد المريدين السالكين ، ثم أكره على الرجوع إلى طريق الغافلين ، (مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) ، أي : بالتصديق بطريق الخصوص ، وهو مصمم على الرجوع إليها ؛ فلا بأس عليه أن ينطق بلسانه ، ما يرى أنه رجع إليهم. فإذا وجد فسحة فرّ بدينه. وكذلك إذا أخذه ضعف أو فشل وقت القهرية ، ثم أنهضته العناية ، ففرّ إلى الله ، التحق بأولياء الله ، وأما من شرح صدره بالرجوع عن طريق القوم ، وطال مقامه مع العوام ، فلا يفلح أبدا فى طريق الخصوص ، والتحق بأقبح العوام ، إلا إن بقي فى قلبه شىء من محبة الشيوخ والفقراء ، فلعله يحشر معهم ، ودرجته مع العوام.
قال القشيري : إذا علم الله صدق عبده بقلبه ، وإخلاصه فى عقده ، ثم لحقته ضرورة فى حاله ، خفّف عنه حكمه ، ورفع عنه عناءه ، فإذا تلفظ بكلمة الكفر ؛ مكرها ، وهو بالتوحيد محقق ، عذر فيما بينه وبين ربه. وكذلك الذين عقدوا بقلوبهم ، وتجردوا لسلوك طريق الله ، ثم اعترضت لهم أسباب ، فاتفقت لهم أعذار ، فنفذ ما يوجبه الحال ، وكان لهم ببعض الأسباب اشتغال ، أو إلى شىء من العلوم رجوع ، لم يقدح ذلك فى حجة إرادتهم ، ولا يعدّ ذلك منهم شكا وفسخا لعهودهم ، ولا تنتفى عنهم سمة الفيئة إلى الله. ه. قلت : هذا إن بقوا فى صحبة الشيوخ ، ملازمين لهم ، أو واصلين إليهم ، وأما إن تركوا الصحبة ، أو الوصول ، فلا شك فى رجوعهم إلى العمومية.
ثم قال فى قوله : (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) : من رجع باختياره ، ووضع قدما فى غير طريق الله ، بحكم هواه ، فقد نقض عهد إرادته لله ، وفسخ عقد قصده إلى الله ، وهو مستوجب الحجبة ، إلى أن تتداركه الرحمة. ه. قال شيخ شيوخنا ، سيدى عبد الرحمن الفاسى ، ما نصه : وفى مكاتبة لشيخنا العارف أبى المحاسن يوسف بن محمد : فإن اختلفت الأشكال ، وتراكمت الفتن والأهوال ، وتصدعت الأحوال ، ربما ظهر على العارف وصف لم يكن معهودا ، وأمر لم يكن بالذات مقصودا ، فيكون معه قصور فى جانب الحق ، لا فى جانب الحقيقة ، فلا يضر ، إن رجع فى ذلك لمولاه ؛ فرارا ، وإلى ربه ؛ اضطرارا. (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ). ه.