وقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) ؛ هم العارفون بالله ، فإذا أشكل علينا أمر من أمر القلوب ؛ كأسرار التوحيد ، وأمر الخواطر ، رجعنا إليهم ؛ لأنهم أهل الذوق والكشف ، يجيبون سائلهم بالهمة والحال ، حتى يقلعوا عروق ما أشكل على السائل ، إن أتاهم متعطشا لهفانا ، وكذا ما أشكل فى أمر الدنيا ، من فعل تريد أن تفعله أو تتركه ، فينبغى الرجوع إليهم ؛ لأنهم ينظرون بنور الله ، فلا ينطقهم الله إلا بما هو حق سبق به القدر. وأما أمور الدين ، فإن كان له علم بالشريعة الظاهرة فالرجوع إليه ، وإن لم يكن له علم بالظاهر ، فالعلماء قائمون بهذا الأمر.
وقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ؛ يفهم منه أن من كان من أهل الفهم عن الله ، يأخذ العلم عن الله بإلهام أو تجل حقيقى ، فلا يحتاج إلى سؤالهم ، حيث صفت مرآة قلبه ، وقد يكون الولي ذاكرا ، باعتبار قوم ، وغير ذاكر ، باعتبار آخرين ، الذين هم أنهض منه حالا ، وأصوب مقالا. والله تعالى أعلم.
ثم هدد أهل المكر بأهل الخصوصية ، فقال :
(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧))
قلت : (مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) : صفة لمحذوف ، أي : المكرات السيئات ، والتخوّف ، قيل : معناه : التنقص ، وهو أن تنقصهم شيئا فشيئا. روى أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب صلىاللهعليهوسلم توقف فى معناها ، فقال على المنبر : ما تقولون فيها؟ فسكتوا ، فقام شيخ من هذيل ، فقال : هذه لغتنا ، التخوف : التنقص. فقال : هل تعرف العرب ذلك فى أشعارها؟ فقال : نعم. قال شاعرنا أبو كثير يصف ناقته :
تخوّف الرّحل منها تامكا قردا |
|
كما تخوّف عود النّبعة السفن (١) |
فقال عمر : عليكم بديوانكم ؛ لا تضلوا ، قالوا : وما ديواننا؟ قال : شعر الجاهلية ؛ فإن فيه تفسير كتابكم ومعانى كلامكم. ه.
يقول الحق جل جلاله : (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا) المكرات السيئات برسول الله صلىاللهعليهوسلم وبالمؤمنين ، حيث قصدوا ردّ دينه ، وصدوا الناس عن طريقه ، (أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) كما خسف بقارون ، (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) أي : بغتة من حيث لا يظنون ، كما فعل بقوم لوط ، (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي
__________________
(١) اختلف فى نسبة البيت ، فنسبه الزمخشرى فى تفسيره لزهير ، وأبو حيان لأبى كثير الهذلى ، ونسبه ابن منظور لابن مقبل ، مرة ، ولذى الرمة ، أخرى ، وقوله : تامكا قردا ، أى : سناما مرتفعا ، والنبعة : واحدة النبع ، وهو من شجر الجبال ، والسفن : المبرد.