وديارهم فى طلب معرفة الله ، كما فعل كثير من الصوفية ، فقلّ أن تجد وليا إلا وهاجر من بلده ؛ لإقامة دينه وجبر قلبه ، وإفراغ سره لربه ، من بعد ما ظلموا بإيذاء الخلق ـ كما هو سنة الله فى خواصه ـ لنبوئنهم فى الدنيا حسنة ، وهى معرفة الشهود والعيان فى الباطن ، واستقامة الدين والعافية فى الظاهر. هذا فى الدنيا ، ولأجر الآخرة أكبر وأكبر ؛ إذ فيه مالا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. الذين صبروا على مجاهدة النفوس ، وحط الرءوس ، ودفع الفلوس ، أو على ضروب الفاقات ، ونزول البليات ، وركوب الأهوال والآفات ، إذ لا يأتى الجمال إلا بعد الجلال ، ولا تأتى الحلاوة إلا بعد المرارة.
لا تحسب المجد تمرا أنت آكله |
|
لن تبلغ المجد حتّى تلعق الصبرا (١) |
وعلى ربهم يتوكلون ، أي : مفوضين فى أمورهم كلها لله ، ليس لهم مع الله اختيار ، ولا لهم عن أنفسهم إخبار ، بل هم كالميت بين يدى الغاسل. حققنا الله من هذا المقام بالحظ الأوفر .. آمين.
ولا بد من الواسطة فى الوصول إلى هذا ، إما رسول أو خليفته ، كما قال تعالى :
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤))
قلت : (بِالْبَيِّناتِ) : يتعلق بأرسلنا الذي فى أول الآية ، على التقديم والتأخير ، أي : وما أرسلنا إلا رجالا بالبينات ، فاسألوا أهل الذكر ، أو بأرسلنا ؛ مضمرا ، وكأنه جواب سائل قال : بم أرسلوا به؟ فقال : بالبينات ، أو : صفة لرجال ، أي : رجالا ملتبسين بالبينات ، أو : بيوحى. انظر البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله ، فى الرد على قريش ، حيث قالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) يا محمد (إِلَّا رِجالاً) بشرا ، (نُوحِي إِلَيْهِمْ) (٢) كما يوحى إليك. فليس ببدع أن يكون الرسول بشرا ، بل جرت السنة الإلهية بأن لا يبعث للدعوة العامة إلا بشرا يوحى إليه على ألسنة الملائكة ؛ إذ لا يطيق كل البشر رؤية الملائكة ولا التلقي منهم. فإن شككتم (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) : أهل الكتاب ، أو علماءهم الأحبار ، أي : الذين لم يسلموا ، لأنهم لا يتهمون فى شهادتهم ، من حيث إنهم مدافعون فى صدر ملة محمد صلىاللهعليهوسلم ، وأنتم إلى
__________________
(١) من قصيدة لأبى الطيب أحمد بن الحسين ، المعروف بالمتنبي.
(٢) قرأ الجمهور : (يوحى) بالياء وفتح الحاء ، وقرأ حفص (نوحى) بالنون وكسر الحاء .. انظر الإتحاف (٢ / ١٨٤).