(حَقًّا) ، لا يخلف ؛ لامتناع الخلف فى وعده ، أو : لأن البعث مقتضى حكمته ؛ لتنزيه فعله عن العبث ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أنهم يبعثون ، إما لعدم علمهم بأنه من موجبات الحكمة ، التي جرت عادته بمراعاتها ، وإما لقصور نظرهم باعتبار المألوف ، ووقوفهم مع العوائد ، فتوهموا امتناعه ، وقالوا : (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (١) ، ولم ينظروا إلى قدرة الله التي لا يعجزها شىء.
ثم بيّن حكمة البعث ، فقال : (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ) أي : يبعثهم ؛ ليبين لهم (الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) ؛ وهو الحق من الباطل ؛ فإن الناس مختلفون فى أديانهم ومذاهبهم ؛ فيبعثهم الله ؛ ليبين لهم الحق فيما اختلفوا فيه ، فيظهر من كان على الحق ممن كان على الباطل ، (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) فيما كانوا يزعمون ؛ من عدم البعث ، وتمسكهم بالحق ، وهو إشارة إلى السبب الداعي إلى البعث ، المقتضى له من حيث الحكمة ، وهو التمييز بين الحق والباطل ، والمحق والمبطل.
ثم بيّن كمال قدرته الموجبة للبعث وغيره فقال : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، فأمره بين الكاف والنون ، فإذا كان إيجاد الأشياء من العدم بلفظ «كن» ، فأولى إعادتها. وكون أمره بين الكاف والنون كناية عن السرعة ، وإلّا فلا يحتاج إلى لفظ «كن» ، بل مهما أراد شيئا ، أظهره ؛ أقرب من لحظ العيون ، وإنما جاءت العبارة على قدر ما تفهم العقول ، وعلى هذا فلا يحتاج إلى ما تعسّفه ابن عطية وغيره ؛ من كون القول فى الأزل ، وإظهاره فيما لا يزال ـ يعنى : فى وقت إظهاره ـ ؛ فإن الكلام إنما خرج مخرج الاستعارة أو المجاز ، فلا يتوقف إيجاد الأشياء على «كن». والله تعالى أعلم.
الإشارة : ترى بعض الجهال يقسمون بالله جهد أيمانهم : أن الله لا يفتح على فلان ، لما يرون فيه من الجهل والغباوة ، أو من الطغيان والمعاصي ، فلا يبعث الله روحه بإحيائها بعد موتها ، وتلفها فى عالم الحس ، مع أن القدرة صالحة ؛ قال فى الحكم : «من استغرب أن ينقذه الله من شهوته ، وأن يخرجه من وجود غفلته ، فقد استعجز القدرة الإلهية ، وكان الله على كل شىء مقتدرا». فإن سبقت له العناية يقل الحقّ تعالى فى شأنه : بلى ، يبعثه ، ويحيى روحه بالمعرفة واليقين ، وعدا عليه حقا ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن قدرته عامة. فكم من جاهل غبى يخرج منه عالم ولي ، وكم من خصوص خرجوا من اللصوص ، والله يختص برحمته من يشاء. يبعثهم ؛ ليبين لهم الذي يختلفون فيه ؛ من نفوذ قدرته تعالى وعموم تعلقها ، وليعلم الذين كفروا بطريق الخصوص أنهم كانوا كاذبين فيما زعموا ؛ (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
__________________
(١) من الآية ٥ من سورة الرعد.