(فَأَصابَهُمْ) جزاء (سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) من الكفر والمعاصي ، وهو العذاب ، (وَحاقَ) أي : وأحاط (بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي : نزل بهم العذاب الذي كانوا يستهزءون به. والحيق لا يكون إلا فى الشر.
(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) ؛ كالبحائر والسوائب والحوامي. قالوا ذلك على وجه المجادلة والمخاصمة ، والاحتجاج على صحة فعلهم ، أي : إنّ فعلنا هو بمشيئة الله ، فهو صواب ، ولو شاء الله ألا نفعله ما فعلناه. والجواب : أن الاحتجاج بالقدر لا يصح فى دار التكليف ، وقد بعث الله الرسل بالنهى عن الشرك ، وتحريم ما أحل الله ، ونحن مكلفون باتباع الشريعة ، لا بالنظر إلى فعل الحقيقة من غير شريعة ؛ فإنه زندقة ؛ فالشريعة رداء الحقيقة ، فمن خرق رداء الشريعة ، وتمسك بالحقيقة وحدها ، فقد استحق العقاب ، ولذلك قال تعالى : (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ؛ فأشركوا بالله ، وحرموا ما أحل الله ، وردوا رسله. (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي : الإبلاغ الموضح للحق ؛ فمن تمسك بما جاءوا به فهو على صواب ، ومن أعرض عنه فهو على ضلال ، ولا ينفعه تمسكه بالحقيقة من غير اتباع الشريعة. والحقيقة هى أنه لا يقع فى ملكه إلا ما يريد ، طاعة كان أو معصية ، كفرا أو إيمانا ، لكن الأمر غير تابع للإرادة ، ونحن مكلفون باتباع الأمر فقط.
ثم بيّن أن البعثة أمر جرت به السنة الإلهية فى الأمم الماضية ، جعلها سببا لهدى من أراد اهتداءه ، وزيادة الضلال لمن أراد إضلاله ، كالغذاء الصالح ، فإنه ينفع المزاج السوي ـ أي : المعتدل ـ ويقويه ، ويضر المزاج المنحرف ويعييه ، فقال : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً) قائلا : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) ؛ أي : يأمر بعبادة الله وحده واجتناب ما سواه ، (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ) ؛ وفقهم للإيمان وأرشدهم إليه ، (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) ؛ فلم يوفقهم ، ولم يرد إرشادهم ؛ فليس كل من تمسك بشىء وأمهل فيه يدل أنه على صواب ، كما ظن المشركون ، بل النظر إلى ما جاءت به الرسل من الشرائع ، وكلها متفقة على وجوب التوحيد وإبطال الشرك.
ثم أمرهم بالنظر والاعتبار بحال من أشرك وكذب الرسل ، فقال : (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) يا معشر قريش ، (فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) ؛ كعاد وثمود وغيرهم ، لعلكم تعتبرون.
ثم نهى نبيه عن الحرص عليهم فقال : (إِنْ تَحْرِصْ) يا محمد (عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) أي : من يريد إضلاله وقضى بشقائه ؛ وهو الذي حقت عليه الضلالة ، وقرأ غير الكوفيين بالبناء للمفعول (١) ، وهو أبلغ ، أي : فإن الله لا يهدى من يضله ، أي : لا يهدى غير الله من يريد الله إضلاله. (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ؛ ليس لهم من ينصرهم ؛ يدفع العذاب عنهم.
__________________
(١) قرأ عاصم وحمزة والكسائي : «يهدى» ؛ بفتح الياء وكسر الدال ، على البناء للفاعل ، أي : لا يهدى الله من يضله. وقرأ الباقون : «يهدى» بضم الياء وفتح الدال ، على البناء للمفعول ، يعنى : من أضله الله فلا هادى له. انظر الإتحاف (٢ / ١٨٤) والبحر المحيط (٥ / ٤٧).