يستوحش كثير من الناس من أن يلحقوا بالأنبياء ذنوبا ، ويحملهم التنزيه لهم ، صلوات الله عليهم ، على مخالفة كتاب الله جلّ ذكره ، واستكراه التأويل ، وعلى أن يلتمسوا لألفاظه المخارج البعيدة بالحيل الضعيفة التي لا تخيل عليهم ، أو على من علم منهم ـ أنّها ليست لتلك الألفاظ بشكل ، ولا لتلك المعاني بلفق.
كتأوّلهم في قوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [طه : ١٢١] أي : بشم من أكل الشجرة. وذهبوا إلى قول العرب : غوى الفصيل : إذا أكثر من اللبن حتى يبشم. وذلك غوى ـ بفتح الواو ـ يغوي غيّا. وهو من البشم غوي ـ بكسر الواو ـ يغوى غوى. قال الشاعر يذكر قوسا (١) :
معطّفة الأثناء ليس فصيلها |
|
برازئها ذرّا ولا ميّت غوى |
وأراد بالفصيل : السّهم. يقول : ليس يرزؤها درّا ، ولا يموت بشما ، ولو وجد أيضا في (عصى) مثل هذا السّنن لركبوه ، وليس في (غوى) شيء إلا ما في (عصى) من معنى الذّنب ، لأن العاصي لله التّارك لأمره غاو في حاله تلك ، والغاوي عاص. والغيّ ضدّ الرّشد ، كما أن المعصية ضد الطاعة.
وقد أكل آدم ، صلىاللهعليهوسلم ، من الشجرة التي نهي عنها باستزلال إبليس وخدائعه إيّاه بالله والقسم به إنه لمن الناصحين ، حتى دلّاه بغرور (٢). ولم يكن ذنبه عن إرصاد (٣) وعداوة وإرهاص (٤) كذنوب أعداء الله. فنحن نقول : (عصى وغوى) ، كما قال الله تعالى ، ولا نقول : آدم (عاص ولا غاو) ، لأن ذلك لم يكن عن اعتقاد متقدّم ولا نيّة صحيحة ، كما تقول لرجل قطع ثوبا وخاطه : قد قطعه وخاطه ، ولا تقل خائط ولا خيّاط حتى يكون معاودا لذلك الفعل ، معروفا به.
وكتأولهم في قوله سبحانه : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) أنها همّت بالمعصية ، وهمّ بالفرار منها! وقال (بعضهم) : وهمّ بضربها! والله تعالى يقول : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) [يوسف : ٢٤]. أفتراه أراد الفرار منها. أو الضرب لها ، فلما رأى البرهان أقام
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو لعامر المجنون في تاج العروس (غوي) (ولعله عامر بن المجنون الجرمي المذكور في الأغاني ٣ / ١٠٩ ، ١٢٢ ، وكان يلقب بمدرج الريح). والبيت بلا نسبة في لسان العرب (غوي) ، وتهذيب اللغة ٨ / ٢١٨ ، ومقاييس اللغة ٤ / ٤٠٠ ، والمخصص ٧ / ٤١ ، ١٨٠ ، ١٥ / ١٦٢ ، وديوان الأدب ٤ / ٩٧.
(٢) دلاه بغرور : أي أوقعه فيما أراد من تغريره.
(٣) الإرصاد : الإعداد.
(٤) الإرهاص على الذنب : الإصرار عليه.