ولم يقل : إلى النجوم. وهذا كما يقال : فلان ينظر في النجوم ، إذا كان يعرف حسابها ، وفلان ينظر في الفقه والحساب والنحو.
وإنما أراد بالنظر فيها : أن يوهمهم أنه يعلم منها ما يعلمون ، ويتعرف في الأمور من حيث يتعرفون ، وذلك أبلغ في المحال ، وألطف في المكيدة (فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩)) [الصافات : ٨٩] أي سأسقم فلا أقدر على الغدوّ معكم. هذا الذي أوهمهم بمعاريض الكلام ، ونيّته أنه سقيم غدا لا محالة ، لأن من كانت غايته الموت ومصيره إلى الفناء ـ فسيسقم. ومثله قوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠)) [الزمر : ٣٠] ولم يكن النبي ، صلىاللهعليهوسلم ، ميّتا في ذلك الوقت ، وإنما أراد : أنك ستموت وسيموتون.
(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى) الزّهرة (قالَ هذا رَبِّي) يريد : أن يستدرجهم بهذا القول ، ويعرّفهم خطأهم ، وجهلهم في تعظيمهم شأن النجوم ، وقضائهم على الأمور بدلالتها. فأراهم أنه معظّم ما عظّموا ، وملتمس الهدى من حيث التمسوا. وكلّ من تابعك على هواك وشابعك على أمرك ، كنت به أوثق ، وإليه أسكن وأركن. فأنسوا واطمأنوا.
(فَلَمَّا أَفَلَ) أراهم النقص الداخل على النجم بالأفول ، لأنه ليس ينبغي لإله أن يزول ولا أن يغيب ، ف (قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) واعتبر مثل ذلك في الشمس والقمر ، حتى تبين للقوم ما أراد ، من غير جهة العناد والمبادأة بالتّنقص والعيب.
ثم قال : (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ) وما فيها من نجم وقمر وشمس (وَالْأَرْضَ) وما فيها من بحر وجبل وحجر وصنم (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ومثل هذا : الحواريّ حين ورد على قوم يعبدون (بدّا) (١) لهم فأظهر تعظيمه وترفيله (٢) ، وأراهم الاجتهاد في دينهم ، فأكرموه وفضّلوه وائتمنوه ، وصدروا في كثير من الأمور عن رأيه. إلى أن دهمهم عدوّ لهم خافه الملك على مملكته ، فشاور الحواريّ في أمره ، فقال : الرأي أن ندعو إلهنا ـ يعني البدّ ـ حتى يكشف ما قد أظلّنا ، فإنا لمثل هذا اليوم كنّا نرشّحه. فاستكفّوا حوله (٣) يتضرّعون إليه ويجأرون ، وأمر عدوّهم يستفحل ، وشوكته تشتد يوما بعد يوم. فلما تبين لهم من هذه الجهة أن (بدّهم) لا ينفع ولا يدفع ، ولا يبصر ولا يسمع ، قال : هاهنا إله آخر ، أدعوه فيستجيب ،
__________________
(١) البدّ : الصنم الذي يعبد ، لا أصل له في اللغة ، فارسي معرب ، والجمع : البددة ، بفتح الباء والدال.
(٢) الترفيل : التسويد والتعظيم ، ورفلت الرجل : إذا عظمته وملّكته.
(٣) استكفّوا حوله : يقال : استكف القوم حول الشيء : أي أحاطوا به ينظرون إليه.