يعثناهم ليسوءوا وجوهكم ، فحذفها ، لأنه قال قبل : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا) [الإسراء : ٥]. فاكتفى بالأول من الثاني ، إذ كان يدل عليه.
وكذلك قوله : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) [ق : ١٧]. فاكتفى بذكر الثاني من الأول.
وقد يشكل الكلام ويغمض بالاختصار والإضمار.
كقوله : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨)) [فاطر : ٨]. والمعنى : أفمن زيّن له سوء عمله فرآه حسنا ، ذهبت نفسك حسرة عليه؟! فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء.
وكقوله سبحانه : (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١)) [النمل : ١٠ ، ١١] لم يقع الاستثناء من المرسلين ، وإنما وقع من معنى مضمر في الكلام ، كأنه قال : لا يخاف لديّ المرسلون ، بل غيرهم الخائف ، إلا من ظلم ثم تاب فإنه لا يخاف.
وهذا قول الفراء ، وهو يبعد : لأن العرب إنما تحذف من الكلام ما يدل عليه ما يظهر ، وليس في ظاهر هذا الكلام ـ على هذا التأويل ـ دليل على باطنه.
قال أبو محمد : والذي عندي فيه ، والله أعلم ، أنّ موسى عليهالسلام ، لما خاف الثعبان وولّى ولم يعقّب ، قال الله عزوجل : (يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) [النمل : ١٠] وعلم أن موسى مستشعر خيفة أخرى من ذنبه في الرّجل الّذي وكزه فقضى عليه ، فقال : (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) [النمل : ١١] أي توبة وندما ، فإنه يخاف ، وإني غفور رحيم.
وبعض النحويين يحمل (إلّا من ظلم) بمعنى : ولا من ظلم ، كقوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [البقرة : ١٥٠]. على مذهب من تأول هذا في (إلّا) : كقوله في سورة الأنفال ، بعد وصف المؤمنين : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) [الأنفال : ٥]. ولم يشبّه قصة المؤمنين بإخراج الله إيّاه ، ولكن الكلام مردود إلى معنى في أول السورة ومحمول عليه ، وذلك : أن النبي صلىاللهعليهوسلم ، رأى يوم بدر قلّة المسلمين وكراهة كثير منهم للقتال ، فنفّل كلّ امرئ منهم ما أصاب ، وجعل لكل من قتل قتيلا كذا ، ولمن أتى بأسير كذا ، فكره ذلك قوم فتنازعوا واختلفوا وحاجّوا النبي ، صلىاللهعليهوسلم ، وجادلوه ، فأنزل الله سبحانه : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) : يجعلها لمن