الكريمة أنه إذا قيل لهؤلاء المشركين : أطيعوا كتاب الله واسمعوا قول النبيّ محمد (ص) واتّبعوه فيما يدعوكم إليه من الهدى (قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي نحن نقلّد آباءنا فيما وجدناهم عليه من الدين فإنهم أبصر منّا وأرسخ إيمانا ، ولو كان دينهم فاسدا وطريقتهم باطلة ما استقاموا على ذلك طول الزمان بلا مانع يمنعهم. فوبّخهم الله جلّ وعلا بقوله (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) والهمزة للردّ والتعجّب ، والواو للحال ، وحاصل معنى الجملة الكريمة : أن هؤلاء الحمقى لا يرجعون عن دين آبائهم ، والحال أن آباءهم كانوا فاقدين للعقل المميّز الحقّ من الباطل والصحيح من الفاسد ، وإلّا لما خضع أشرف المخلوقات ـ وهو الإنسان ـ لأدون الجمادات من الأصنام التي صنعوها بأيديهم! ... فمن عبد الجماد الفاقد للعقل ، كان أفقد منه للعقل وأجمد منه على الباطل. فآباؤهم عبدة أصنام لا تسمع ولا تعقل ، وهم مقيمون على عبادتها وتقديسها ، وهؤلاء يعتقدون بهم ويقلّدونهم في طريقتهم ، ويصمّون آذانهم عن أن يستشمّوا روح الحق والصواب من الدين الحنيف الذي جاء به محمد بن عبد الله (ص). ويستشعر من هذه الكريمة أنه لا بد للإنسان من إعمال عقله وفكره ونظره ليتعمّق في البحث عن مقلّده فلا يقلّده إلا بناء على بصيرة نافذة ورويّة تامّة بعد أن يراه أهلا للتقليد وجامعا لكل الشرائط المعتبرة.
١٧١ ـ (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ... الآية ... أي مثل داعي الذين كفروا (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ) فهم في ادّعائهم كمثل الناعق من البهائم التي لا تسمع إلا تصويتها ولا تفهم مرادها ولا معنى نعيقها ، فهم (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) لا يسمعون ولا يتكلّمون ولا يرون الهدى وطريق الحق. والألفاظ الثلاثة إمّا أنها خبر لمبتدأ محذوف ـ أي هم صمّ بكمّ عمي ـ وإمّا أنها مبتدأ لخبر محذوف وقد فسّرناه (فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) لعلامات التوحيد والبراهين الساطعة على وجود الصانع