قال الرازي : اعلم أنّ موسى عليهالسلام لمّا طلب الرؤية ومنعهُ الله منها ، عدّد اللهُ عليه وجوه نِعَمه العظيمة الّتي له عليه ، وأمره أن يشتغلَ بذكرها كأنّه قال : إن كنتُ قد منعتُك الرؤية فقد أعطيتُك من النِّعم كذا وكذا ، فلا يضيقُ صدرُك بسبب منع الرؤية ، وانظر إلى سائر أنواع النعم الّتي خصصتُك بها ، واشتغِل بشكرها ، والمقصود تسلية موسى عليهالسلام عن منع الرؤية ، وهذا أيضاً أحد ما يدلُّ على أنّ الرؤية جائزةٌ على الله تعالى ؛ إذ لو كانت ممتنعة في نفسها لما كان إلى ذكر هذا القدر حاجة (١).
وقد تبعه إسماعيل البرسوي فقال في تفسير قوله (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) : أن اشكُر يبلغك إلى ما سألتَ من الرؤية ؛ لأنّ الشكر يستدعي الزيادة ، لقوله تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) (٢) والزيادة هي الرؤية لقوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) (٣) ، وقال عليه الصّلاة والسلام : «الزيادةُ هي الرؤية ، والحسنى هي الجنّة» (٤).
ومن المثبتين للرؤية من يستحسن مواقفَ المستدلّين بهذه الآية ويقول : إنّ الاستدلال بهذه الآية على الجواز قويّ ؛ لأنّ الله تعالى عدّد لموسى عليهالسلام هذه النعم التي أنعم اللهُ بها عليه لما منعه من حصولٍ جائزٍ طلبه منه ، فذكر ما ذكر تسليةً له ، ولو منعه من ممتنع لكان بخطاب آخر ، وذلك مثلُ خطابه تعالى لنوح : (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ* قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ
__________________
(١) الرازي ، مفاتيح الغيب ١٤ : ٢٣٥.
(٢) ابراهيم : ٧.
(٣) يونس : ٢٦.
(٤) إسماعيل حقي البرسوي ، روح البيان ٣ : ٢٣٩ ؛ وتبعه الآلوسي في روح المعاني لاحظ ٩ : ٥٥.