فما ذا يا ترى يريد المنصور من قوله للواعظ : عظني ، وما ذا يعني بإطراقه بعد ذلك وسكوته ، هل يريد الاستهزاء بالدين الذي نهى عن قتل النفس وسفك الدماء ، أو يريد شيئاً آخر؟! وليت شعري أين كان المؤرّخون وأصحاب الكلمات الصادقة المنصفة من هذه المواقف المخزية التي تقشعر لها الأبدان ، وهم يتحدّثون عن هذا الرجل الذي ما آلوا يشيدون بذكره ويمجّدون بأعماله ، وهلّا تأمّل القرّاء في سيرة هذا الرجل ليدركوا ذلك الخطأ الكبير.
بلى إنّ هذا الرجل أسرف في القتل كثيراً ، وكان للعلويين النصيب الأكبر ، وحصّة الأسد من هذا الظلم الكبير.
يقول المسعودي : جمع المنصور أبناء الحسن ، وأمر بجعل القيود والسلاسل في أرجلهم وأعناقهم ، وحملهم في محامل مكشوفة وبغير وطاء ، تماماً كما فعل يزيد بن معاوية بعيال الحسين. ثمّ أودعهم مكاناً تحت الأرض لا يعرفون فيه الليل من النهار ، وأُشكلت أوقات الصلاة عليهم ، فجزَّءوا القرآن خمسة أجزاء ، فكانوا يصلّون على فراغ كلّ واحد من حزبه ، وكانوا يقضون الحاجة الضرورية في مواضعهم ، فاشتدّت عليهم الرائحة ، وتورّمت أجسادهم ، ولا يزال الورم يصعد من القدم حتّى يبلغ الفؤاد ، فيموت صاحبه مرضاً وعطشاً وجوعاً (١).
وقال ابن الأثير : دعا المنصور محمّد بن عبد الله العثماني ، وكان أخاً لأبناء الحسن من أُمّهم ، فأمر بشقّ ثيابه حتّى بانت عورته ، ثمّ ضرب مائة وخمسون سوطاً ، فأصاب سوط منها وجهه فقال : ويحك اكفف عن وجهي ، فقال المنصور للجلّاد : الرأس الرأس ، فضربه على رأسه ثلاثين سوطاً ، وأصاب إحدى عينيه فسالت على وجهه ، ثمّ قتله ـ ثمّ ذكر ـ : وأحضر المنصور محمّد بن إبراهيم بن الحسن ، وكان أحس الناس صورة ، فقال له : أنت الديباج الأصفر ، لأقتلنّك قتلة
__________________
(١) مروج الذهب ٣ : ٣١٠ ط سنة ١٩٤٨ م.