وقال : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ (٢٤)) [ص] وقال : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ (١١٦)) [الأنعام] وبعث النار من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعون ، وواحد إلى الجنة؟ وكيف نشأ هذا عن الرحمة الغالبة ، وعن الحكمة البالغة ، وهلّا كان الأمر بالضد من ذلك؟.
قيل : هذا السؤال من أظهر الأدلة على قول الصحابة والتابعين في هذه المسألة ، وأن الأمر يعود إلى الرحمة التي وسعت كل شيء ، وسبقت الغضب وغلبته ، وعلى هذا فاندفع السؤال بالكلية ثم نقول : المادة الأرضية اقتضت حصول التفاوت في النوع الإنساني ، كما في المسند والترمذي عنه صلىاللهعليهوسلم : «إن الله خلق آدم من قبضة ، قبضها من جميع الأرض ، فكان منهم الخبيث والطيب والسهل والحزن وغير ذلك» (١).
فاقتضت مادة النوع الإنساني تفاوتهم في أخلاقهم وإراداتهم وأعمالهم ، ثم اقتضت حكمة العزيز الحكيم أن ابتلى المخلوق من هذه المادة بالشهوة والغضب والحب والبغض ولوازمها ، وابتلاه بعدوّه الذي لا يألوه خبالا (٢) ولا يغفل عنه ، ثم ابتلاه مع ذلك بزينة الدنيا ، وبالهوى الذي أمر بمخالفته ، هذا على ضعفه وحاجته ، وزين له حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث ، وأمره بترك قضاء أوطاره (٣) وشهواته في هذه الدار الحاضرة العتيدة المشاهدة ، إلى دار أخرى غايته ، إنما تحصل فيها بعد طيّ الدنيا ، والذهاب بها. وكان مقتضى الطبيعة الإنسانية أن لا يثبت على هذا الابتلاء أحد ، وأن يذهب كلهم مع
__________________
(١) مر سابقا.
(٢) يألو : يستطيع. خبالا : هلاكا ، عناء ، نقصانا.
(٣) أوطار : حاجات ، جمع حاجة ، ومفرد أوطار : وطر.