ورد بغداد سنة خمس عشرة ، وظهر له القبول التّامّ ، بين الخاصّ والعامّ ، وكان يتكلّم على مذهب الأشعريّ ، فثار عليه الحنابلة ، ووقعت فتن ، فأمر المسترشد بإخراجه ، فخرج إلى أن ولي المقتفي ، فعاد واستوطن بغداد ، فلم يزل يعظ ويظهر مظهر الأشعريّ إلى أن عادت الفتن ، فأخرجوه من بغداد إلى بلده ، فأدركه الأجل.
ثمّ قال ابن النّجّار : قرأت في كتاب أبي بكر المارستانيّ : حدّثني أبو الفتح مسعود بن محمد بن ماشاذة قال : قال لي الحافظ ابن ناصر : أحبّ أن تسأل أبا الفتوح : هل القرآن الّذي تكلّم الله به بحرف وصوت؟
فأتيت الشّيخ أبا الفتوح ، وحكيت له قول ابن ناصر ، فقال لي : سلّم على الحافظ أبي الفضل عنّي ، وقل له : القرآن بحرف يكتب ، وبصوت يسمع.
فعدت إلى ابن ناصر ، فصلّيت خلفه المغرب ، وحدّثته بالجواب ، فحلف أن لا يمشي إليه إلّا حافيا ، وخرج وأنا معه ، فسبقته إليه وحدّثته ، فقال : وأنا والله لا أخرج لتلقّيه إلّا حافيا إجلالا لمجيئه. وخرج من الرّباط ، وقطع درب راجي ، فتلاقيا حافيين ، فاعتنقا ، وقبّل كلّ منهما صاحبه ، وتحادثا ساعة.
قلت : فرح ابن ناصر ما له معنى ، وعسى خبره لأنّه يخالطه في الجواب ، كما خبط هو في السّؤال.
وقال أبو القاسم بن عساكر (١) : أبو الفتوح أجرأ من رأيته لسانا وجنانا ، وأكثرهم فيما يورد إعرابا وإحسانا ، وأسرعهم جوابا ، وأسلمهم خطابا ، مع ما رزق بعد صحّة العقيدة من السّجايا الكريمة ، والخصال الحميدة ، من قلّة المراءاة لأبناء الدّنيا ، وعدم المبالاة بذوي الرّتبة العالية ، والإقبال على إرشاد الخلق ، وبذل النّفس في نصرة الحقّ. إلى أن قال : فمات غريبا شهيدا. وقد كنت لازمت حضور مجلسه ببغداد ، فما رأيت مثله واعظا ولا مذكّرا.
وقال ابن النّجّار : قرأت في كتاب أبي بكر المارستانيّ : حدّثني قاضي القضاة أبو طالب بن الحديثيّ قال : كنت جالسا ، فمرّ أبو الفتوح الأسفرائينيّ ،
__________________
(١) في تبيين كذب المفتري ٣٢٨.