فيستحيل ماء وتجمد جسما سائلا فيستحيل حجرا. ونسبة هذه النفس إلى تلك النفوس كنسبة السراج إلى الشمس. فكما أن الشمس تؤثر في الأشياء تسخينا بالإضاءة ، كذلك السراج يؤثر بقدره. وأنت تعلم أن للنفس تأثيرات جزئية في البدن ، فإنه إذا حدث في النفس صورة الغلبة والغضب حمي المزاج واحمر الوجه. وإذا حدثت صورة مشتهاة فيها حدثت في أوعية المنيّ حرارة مبخرة مهيجة للريح ، حتى تمتلئ به عروق آلة الوقاع فتستعد له ، والمؤثر هاهنا مجرد التصور لا غير.
والخاصية الثانية : أن تصفو النفس صفاء يكون شديد الاستعداد للاتصال بالعقل الفعال حتى يفيض عليها العلوم ، فإنا قد ذكرنا حال القوة القدسية التي تحصل لبعض النفوس حتى تستغني في أكثر أحوالها عن التفكر والتعلم. فالشريف البالغ منها : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ* نُورٌ عَلى نُورٍ) (١).
والخاصية الثالثة للقوة المتخيلة : بأن تقوى النفس ، وتتصل في اليقظة بعالم الغيب كما سبق ، وتحاكي المتخيلة ما أدركته النفس بصورة جميلة وأصوات منظومة فترى في اليقظة وتسمع ، فتكون الصورة المحاكية للجوهر الشريف صورة عجيبة في غاية الحسن وهو الملك الذي يراه النبي (٢) ، وتكون المعارف التي تتصل بالنفس من اتصالها بالجواهر الشريفة تتمثل بالكلام الحسن المنظوم الواقع في الحس المشترك ، فيكون مسموعا.
قال : والنفوس وإن اتفقت في النوع إلا أنها تتمايز بخواص ، وتختلف أفاعيلها اختلافات عجيبة.
__________________
(١) سورة النور : الآية ٣٥.
(٢) الملك : هو واحد الملائكة ، يقول ابن سينا في رسائله : الملائكة ذواتها حقيقية ولها ذوات بحسب القياس إلى الناس ، فأما ذواتها الحقيقية فأمرية ، وإنما يلاقيها من القوى البشرية الروح القدسية الإنسانية ، فإذا تخاطبا انجذب الحس الباطن والظاهر إلى نوره فيتمثل لها من الملك بحسب ما يحتملها فرأى ذلك على غير صورته ويسمع كلامه صوتا بعد ما هو وحي ، والوحي لوح من مراد الملك للروح الإنساني بلا واسطة وذلك هو الكلام الحقيقي.