(ج) عصره :
وهذا العصر الذى أظل أَبا عمرو الشيبانى هو العصر الذى بدأَت فيه الرواية للغة والشعر تأْخذ سبيلها. كما كان العصر الذى تبوأَت فيه الرواية مكانتها ، فمع أَواخر العصر الأُموى كان بدء الرواية ، ومع العصر العباسى الأَول كان تبوؤها مكانتها ، وكانت البصرة والكوفة مهد هذا وذاك ، فكان علماؤهما يخرجون عنهما إلى البادية يجمعون وينقلون عن ألسنة البدو الخُلَّص.
وكانت هجرتهم ـ أَعنى الرواة ـ إِلى من لم تخالط ألسنتهم عجمة ، ممن كانت قريش تتخير أَلفاظهم ، فكانت هجرتهم إِلى قبائل قيس وتميم وهذيل وبعض كنانة وطيئ ، ولم تكن لهم رحلة إِلى البدو المجاورين للحضر ، فلم يأْخذوا عن لخم وجذام لمجاورتهما أَهل مصر ، ولا عن قضاعة وغسان وإياد ، لمجاورتهم أَهل الشام ، إِذ جلهم كانوا نصارى على حظ من العبرية والسريانية ، كما لم يأخذوا عن بكر ، لمجاورتهم النبط والفرس ، ولا من عبد القيس والأزد وعمان ، إِذ كانوا وهم بالبحرين على صلة بالهند وفارس ، كما لم يأْخذوا من أَهل اليمن ، لمخالطتهم الهند والحبشة ، ولا من بنى حنيفة وسكان اليمامة ، ولا من ثقيف وأَهل الطائف ، لمخالطتهم تجار اليمن.
وما إِن أَحس ذلك الفصحاءُ من عرب البادية ، ممن يملكون ما يطمع فيه ، حتى أَخذوا هم الآخرون يرحلون إِلى البصرة والكوفة ، طمعا فى كسبٍ نظير ما يملون.
وكان من هؤلاء الفصحاءِ فى ذلك العصر ، الذى أَظل أَبا عمرو أَو قريبا منه ، ابو البيداءِ الرياحى ، وأَبو مالك عمرو بن كركرة ، وأَبو زياد الكلابى ، وأَبو سوار الغنوى ، وأَبو الشمخ ، وشبيل بن عرعرة الضبعى ، وأَبو ثوابه الأَسدى ، وأبو خيرة شل بن زيد ، وأبو شبل العقيلى ، وأبو محلم الشيبانى ، وأبو مَهْدِيَّة ، وأَبو مسحل ، وأَبو ضمضم الكلابى ، وجهم بن خلف المازنى ، وأَبو العميثل ، والفقعسى.
وقد تردد ذكر الكثير من هؤلاءِ فى كتاب الجيم لأَبى عمرو ، كما تجد فيه ذكرا للقبائل التى أَخذ عنها ، وأَنها كانت من القبائل التى لم تشع فيها عجمة.