وكان أبو يزيد مع كونه سيّئ الاعتقاد زاهدا. قام غضبا لله لما انتهك هؤلاء من المحرّمات وقلبوا الدّين. وكان يركب حمارا ويلبس الصّوف. فقام معه خلق كثير ، فحارب القائم مرّات ، واستولى على جميع مدن القيروان. ولم يبق للقائم إلّا المهديّة. فنازلها أبو يزيد وحاصرها ، فهلك القائم في الحصار. وقام المنصور وأخفى موت أبيه ، ونهض لنفسه وصابر أبا يزيد حتّى رحل عن المهديّة ، ونزل على سوسة يحاصرها (١). فخرج إليه المنصور من المهديّة والتقيا ، فانهزم أبو يزيد ، وساقوا وراءه فأسروه في سنة ستّ وثلاثين ، فمات بعد أسره بأربعة أيّام من الجراحات ، فأمر بسلخه وحشا جلده قطنا وصلبه (٢) ، وبنى مدينة في موضع الوقعة وسمّاها المنصوريّة واستوطنها (٣).
وكان شجاعا قويّ الجأش (٤) ، فصيحا مفوّها ، يرتجل الخطبة.
خرج في رمضان سنة إحدى وأربعين إلى مدينة جلولا للتنزّه ، فأصابه مطر وبرد وريح عظيمة ، فأثّر فيه ومرض ، ومات خلق ممّن معه.
مات هو في سلخ شوّال ، وله تسع وثلاثون سنة (٥).
وقد كان في سنة أربعين جهّز جيشه في البحر إلى صقلّيّة ، فالتقوا الروم ونصروا عليهم ، وقتل من الرّوم ثلاثون ألفا ، وأسر منهم خلق. وغنم البربر ما لا يوصف (٦).
ذكر شيوخ القيروان أنّهم ما رأوا فتحا مثله قطّ.
ومن عجيب أخباره أنّه جمع في قصره من أولاد جنده ورعيّته عشرة آلاف صبيّ ، وأمر لهم بكسوة فاخرة ، وعمل لهم وليمة لم ير مثلها ، وختنهم في آن واحد ، بعد أن وهب للصّبيّ مائة دينار أو خمسين دينارا على أقدارهم. وبقي الختان أيّاما عديدة حتّى فرغوا من ختانهم.
__________________
(١) عيون الأخبار وفنون الآثار ، السبع الخامس ٢٣٤ ، ٢٣٥ وما بعدها.
(٢) العيون والأخبار ٣٠٦.
(٣) عيون الأخبار ٣١٧ و ٣٣١.
(٤) عيون الأخبار ٣١٩.
(٥) عيون الأخبار ٣٤٧.
(٦) عيون الأخبار ٣٣٧.