وهو في الحبس مقيّدا. فلمّا حضر وقت الصلاة رأيته نهض ، فتطايرت منه القيود وتوضّأ وهو على طرف المحبس ، وفي صدر ذلك المحبس منديل. وكان بينه وبين المنديل مسافة ، فوالله ما أدري أن المنديل قدم إليه أو هو إلى المنديل!
فتعجّبت من ذلك وهو يبكي بكاء فقلت له : لم لا تخلّص نفسك؟ فقال :ما أنا محبوس! أين تريد يا ابن خفيف؟ قلت : نيسابور! فقال : غمّض عينيك! فغمّضتهما. ثمّ قال : افتحهما. ففتحت فإذا أنا بنيسابور في محلّة أردتها.
فقلت : ردّني. فردّني وقال :
والله لو حلف العشّاق أنّهم |
|
موتى من الحبّ أو قتلى لما حنثوا |
قوم إذا هجروا من بعد ما وصلوا |
|
ماتوا وإن عاد وصل بعده بعثوا |
ترى المحبّين صرعى في ديارهم |
|
كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا |
ثمّ قال : يا ابن خفيف ، لا يكون الحزن إلّا لفقد محبوب أو فوت مطلوب! والحقّ واضح والهوى فاضح. والخلق كلّهم طلّاب وطلبهم على قدر هممهم ، وهممهم على قدر أحوالهم ، وأحوالهم مطبوعة على علم الغيب ، وعلم الغيب غائب عنهم ، والخلق كلّهم حيارى. وأنشأ يقول :
أنين المريد لشوق يزيد |
|
أنين المريض لفقد الطّبيب |
قد اشتدّ حال المريدين فيه |
|
لفقد الوصال وبعد الحبيب |
ثمّ قال : يا ابن خفيف ، حججت إلى زيارة القديم فلم أجد لقوم موضعا من كثرة الزائرين ، فوقفت وقوف البهيت ، فنظر إليّ نظرة فإذا أنا متّصل به ، ثمّ قال : من عرفني ثمّ أعرض عني فإني أعذّبه عذابا لا أعذّبه أحدا من العالمين.
وجعل يقول :
عذابه فيك عذب |
|
وبعده منك قرب |