الكتب السابقة ، ومهيمنا (١) عليها حفيظا حاكما فالحق ما أحقه منها والباطل ما أبطله منها. وعليه (فَاحْكُمْ) يا رسولنا بين اليهود والمتحاكمين إليك (بِما أَنْزَلَ اللهُ) إليك بقتل القاتل ورجم الزاني لا كما يريد اليهود (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) في ذلك وتترك ما جاءك من الحق ، واعلم أنا جعلنا لكل أمة شرعة ومنهاجا أي شرعا وسبيلا خاصا يسلكونه في إسعادهم وإكمالهم ، (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) على شريعة واحدة لا تختلف في قضاياها وأحكامها لفعل ، ولكن نوع الشرائع فأوجب وأحل ونهى وحرم في شريعة ولم يفعل ذلك في شريعة أخرى من أجل أن يبتليكم فيما أعطاكم وأنزل عليكم ليتبين المطيع من العاصي والمهتدي من الضال ، وعليه فهلمّ (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) (٢) أي بادروا الأعمال الصالحة وليجتهد كل واحد أن يكون سابقا ، فإن مرجعكم إليه تعالى (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) ، ثم يجزيكم الخير بمثله والشر إن شاء كذلك. هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الآية الثانية (٤٩) فقد أمر الله تعالى فيها رسوله ونهاه وحذره وأعلمه وندد بأعدائه أمره أن يحكم بين من يتحاكمون إليه بما أنزل عليه من القرآن فقال : (وَأَنِ احْكُمْ (٣) بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) ونهاه أن يتبع أهواء اليهود فقال : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) وحذره من أن يتبع بعض آرئهم فيترك بعض ما أنزل عليه ولا يعمل به ويعمل بما اقترحوه عليه فقال : (وَاحْذَرْهُمْ) (٤) (أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) وأعلمه أن اليهود إن تولوا أي أعرضوا عن قبول حكمه وهو الحكم الحق العادل فإنما يريد الله تعالى أن ينزل بهم عقوبة نتيجة ما قارفوا من الذنوب وما ارتكبوا من الخطايا فقال : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ (٥) بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ). وندد بأعدائه حيث أخبر أن أكثرهم فاسقون أي عصاة خارجون عن طاعة الله تعالى ورسله فقال : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ). فسلاه بذلك وهون عليه ما قد يجده
__________________
(١) فسر مهيمنا : بعال مرتفع عليه وبمؤتمن عليه ويعود اللّفظان إلى ما فسرناه به لأنّ المرتفع العالي هو الحاكم ، والمؤتمن هو الحافظ.
(٢) فيه دليل على تقديم الواجبات وعدم تأخيرها لا سيّما الصلوات الخمس وخالف أبو حنيفة في الصلاة والآية حجة عليه.
(٣) هل هذه الآية ناسخة للتخيير السابق؟ أو لا نسخ ويقدر بعدها جملة ـ إن شئت ـ لتقدم ذكر التخيير وما تقدم من توجيه في آية (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) يحدد معنى هذه الآية.
(٤) روى ابن اسحاق عن ابن عباس أن قوما من الأحبار اجتمعوا منهم ابن صوريا الأعور وكعب وشاس وقالوا : اذهبوا بنا إلى محمد لعلّنا نفتنه عن دينه فإنّما هو بشر فأتوه وقالوا : قد عرفت يا محمد أنّا أحبار اليهود وإن اتبعناك لم يحالفنا أحد من اليهود وإنّ بيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك فاقض لنا عليهم حتى نؤمن بك فأبى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ونزلت هذه الآية.
(٥) وقد أصابهم فأجلوا من الحجاز وقتل بنو قريضة وضربت عليهم الجزية في ديار الإسلام.