معنى الآيات :
روي أن منافقا ويهوديا (١) اختلفا في شيء فقال اليهودي نتحاكم إلى محمد صلىاللهعليهوسلم لعلمه أنه يحكم بالعدل ولا يأخذ رشوة ، وقال المنافق نتحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي فتحاكما إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقضى لليهودي فنزلت (٢) فيهما هذه الآية : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) والمراد بهذا المنافق ، (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) والمراد به اليهودي والاستفهام للتعجب ألم ينته إلى علمك موقف هذين الرجلين (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) «كعب (٣) بن الأشرف» ، أو الكاهن الجهني ، وقد أمرهم الله أن يكفروا به (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) حيث زين لهم التحاكم عند الكاهن أو كعب اليهودي.
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ) ليحكم بينكم رأيت يا للعجب المنافقين يعرضون عنك اعراضا هاربين من حكمك غير راضين بالتحاكم إليك لكفرهم بك وتكذيبهم لك (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) وحلت بهم قارعة بسبب ذنوبهم أيبقون معرضين عنك؟ أم ماذا؟ (ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ) قائلين ، (٤) ما أردنا إلا الإحسان في عملنا ذلك والتوفيق بين المتخاصمين. هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث ، وأما الرابعة وهي قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) فإن الله تعالى يشير إليهم بأولئك لبعدهم في الخسة والانحطاط فيقول (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) أي من النفاق والزيغ فهم عرضة للنقمة وسوء العذاب ، (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) فلا تؤاخذهم (٥) ، (وَعِظْهُمْ) آمرا إياهم بتقوى الله والإسلام له ظاهرا وباطنا مخوفا إياهم من عاقبة سوء أفعالهم بترك التحاكم إليك وتحاكمهم إلى الطاغوت ، وقل لهم في خاصة أنفسهم قولا بليغا ينفذ إلى قلوبهم فيحركها ويذهب عنها غفلتها علهم يرجعون.
__________________
(١) صيغ الجمع الواردة في الآية مثل : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا) تشير إلى كثرة المنافقين ، ومن أمثال اليهودي والمنافق صاحبي القصة التي نزلت الآية فيها.
(٢) روي أنّ المنافق لم يرض بحكم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وذهب باليهودي إلى أبي بكر فحكم بحكم رسول الله صلىاللهعليهوسلم فلم يرض المنافق فذهب بخصمه اليهودي إلى عمر فذكر له اليهودي القصة فقال عمر للمنافق وهو يشير أكذا هو؟ قال : نعم. قال : رويد كما حتى أخرج إليكما ، فدخل وأخذ السيف ثم ضرب به المنافق حتى برد وقال هكذا أقضي على من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله ، وهرب اليهودي ، ونزلت هذه الآية وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لعمر : أنت الفاروق.
(٣) قيل فيه طاغوت لأنّه ذو طغيان زائد في الظلم والشرّ والفساد.
(٤) هؤلاء هم قوم القتيل المنافق جاءوا يطالبون بدية أخيهم في النفاق ، وقالوا الكثير أكثر مما ذكر في الآية وكل أقوالهم باطلة أملاها النفاق ولذا أمر الرسول بالاعراض عنهم.
(٥) أي لا تؤاخذهم فيما يبطنونه من الكفر ما داموا لم يظهروه علنا.