معنى الآيات :
ما زال السياق متعلقا بغزوة أحد فأنكر تعالى على المؤمنين ظنهم أنهم بمجرد ايمانهم يدخلون الجنة بدون أن يبتلوا بالجهاد والشدائد تمحيصا لهم وإظهارا للصادقين منهم في دعوى الإيمان والكاذبين فيها ، كما يظهر الصابرين الثابتين والجزعين المرتدين فقال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) ثم عابهم تعالى على قلة صبرهم وانهزامهم في المعركة مذكرا إياهم بتمنيات الذين لم يحضروا وقعة بدر ، وفاتهم فيها ما حازه من حضرها من الأجر والغنمية بأنهم إذا قدّر لهم قتال في يوم ما من الأيام يبلون فيه البلاء الحسن فلما قدر تعالى ذلك لهم في وقعة أحد جزعوا وما صبروا وفروا منهزمين فقال تعالى : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ (١) مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) أي فلم انهزمتم وما وفيتم ما واعدتم أنفسكم به؟ هذا ما تضمنته الآيتان الأولى (١٤٢) والثانية (١٤٣) وأما الآية الثالثة (١٤٤) فقد تضمنت عتابا شديدا لأصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم عند ما اشتدت المعركة وحمي وطيسها واستحر القتل في المؤمنين نتيجة خلو ظهورهم من الرماة الذين كانوا يحمونهم من ورائهم وضرب ابن قميئة ـ أقمأه الله ـ رسول الله صلىاللهعليهوسلم بحجر في وجهه فشجه وكسر رباعيته ، وأعلن أنه قتل محمدا فانكشف المسلمون وانهزموا ، وقال من قال منهم لم نقاتل وقد مات رسول الله ، وقال بعض المنافقين نبعث إلى ابن أبي رئيس المنافقين يأتي يأخذ لنا الأمان من أبي سفيان ، ونعود إلى دين قومنا!! فقال تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ (٢) إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) وما دام رسولا كغيره من الرسل ، وقد مات الرسل قبله فلم ينكر موته ، أو يندهش له إذا؟ بعد تقرير هذه الحقيقة العلمية الثابتة أنكر تعالى بشدة على أولئك الذين سمعوا صرخة إبليس في المعركة (قتل محمد) ففروا هاربين إلى المدينة ، ومنهم من أعلن ردته في صراحة وهم المنافقون فقال تعالى : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) فعاتبهم
__________________
(١) وكان منهم من وفى بما وعد وقاتل حتى استشهد وهو أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك فإنّه لما رأى المسلمين قد انكشفوا قال : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع هؤلاء وباشر القتال وهو يقول إني لأجد ريح الجنة ولما قتل وجد به أكثر من ثمانين ضربة وفيه نزل قول الله تعالى : (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ).
(٢) لمّا قبض صلىاللهعليهوسلم قام عمر في الناس وقال : إنّ الرسول لم يمت ولن يموت حتى يقطع أيدي وأرجل أقوام ، وكان في دهشة عظيمة حتى جاء أبو بكر من العوالي فدخل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو مسجى فكشف الغطاء عن وجهه وقبّله بين عينيه ثمّ خرج فسمع ما قال عمر فرقي المنبر وقال : من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإنّ الله حي لا يموت وقرأ : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) الآية ، فرجع عمر إلى رشده واعترف بموت نبيه وبكاه