قوله تعالى : (وَأَنابُوا إِلَى اللهِ) أي : رجعوا إليه بالطّاعة (لَهُمُ الْبُشْرى) بالجنّة «فبشر عبادي» بياء ، وحرّك الياء أبو عمرو. ثم نعتهم فقال : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ) وفيه قولان : أحدها : أنه القرآن ، قاله الجمهور. فعلى هذا ، في معنى (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) أقوال قد شرحناها في الأعراف (١) عند قوله : (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها). والثاني : أنه جميع الكلام. ثم في المعنى قولان. أحدهما : أنه الرّجل يجلس مع القوم فيسمع كلامهم ، فيعمل بالمحاسن ويحدّث بها ، ويكفّ عن المساوئ ولا يظهرها ، قاله ابن السّائب. والثاني : أنه لمّا ادّعى مسيلمة أنه قد أتى بقرآن ، وأتت الكهنة بالكلام المزخرف في الأباطيل ، فرّق المؤمنون بين ذلك وبين كلام الله ، فاتّبعوا كلام الله ، ورفضوا أباطيل أولئك ، قاله أبو سليمان الدّمشقي.
(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠))
قوله تعالى : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) قال ابن عباس : سبق في علم الله أنّه في النّار. فإن قيل : كيف اجتمع في هذه الآية استفهامان بلا جواب؟ قيل : أمّا الفرّاء ، فإنه يقول : هذا ممّا يراد به استفهام واحد ، فسبق الاستفهام إلى غير موضعه فردّ إلى موضعه الذي هو له ، فيكون المعنى : أفأنت تنقذ من في النّار من حقّت عليه كلمة العذاب؟ ومثله : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) (٢) فردّ (أَنَّكُمْ) مرّتين ، والمعنى : أيعدكم أنكم مخرجون إذا متّم؟ ومثله : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) ثم قال : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) (٣) فردّ «تحسبنّ» مرتين ، والمعنى : لا تحسبنّ الذين يفرحون بمفازة من العذاب. وقال الزّجاج : يجوز أن يكون في الكلام محذوف ، تقديره : أفمن حقّ عليه كلمة العذاب فيتخلّص منه أو ينجو ، أفأنت تنقذه؟ قال المفسّرون : أفأنت تخلّصه ممّا قدّر له فتجعله مؤمنا؟ والمعنى : ما تقدر على ذلك. قال عطاء : يريد بهذه الآية أبا لهب وولده ومن تخلّف من عشيرة النبيّ صلىاللهعليهوسلم عن الإيمان.
قوله تعالى : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا) وقرأ أبو المتوكّل ، وأبو جعفر «لكنّ» بتشديد النون وفتحها. قال الزّجّاج : والغرف : هي المنازل الرّفيعة في الجنّة ، (مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ) أي : منازل أرفع منها. (وَعْدَ اللهِ) منصوب على المصدر ؛ فالمعنى : وعدهم الله غرفا وعدا. ومن قرأ : «وعد الله» بالرّفع ؛ فالمعنى : ذلك وعد الله.
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١))
قوله تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) قال الشّعبي : كلّ ما في الأرض فمن السّماء ينزل (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ) قال ابن قتيبة : أي : أدخله فجعله ينابيع ، أي : عيونا تنبع ، (ثُمَّ يَهِيجُ) أي : ييبس. قال الأصمعيّ : يقال للنّبت إذا تمّ جفافه : قد هاج يهيج هيجا. فأمّا الحطام ، فقال أبو عبيد : هو ما يبس
__________________
(١) الأعراف : ١٤٥.
(٢) المؤمنون : ٣٥.
(٣) آل عمران : ١٨٨.