حقيقتها ماء مشوب بأشياء أخرى ، أودعتها فيه قدرة الخالق جل وعلا ، كما أودعت فى هذه البذرة ، صورة الشجرة ولون زهرها ، وطعم ثمرها .. كذلك هذه النطفة الأمشاج ، قد حملت فى كيانها صورة الإنسان ، ولونه ، ومستوى إدراكه ، ومستودع عواطفه ، ومشاعره ، وكل ما يكون به إنسانا له ذاتيته التي يتميز بها عن غيره من أبناء جنسه!
وقوله تعالى : (نَبْتَلِيهِ* فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) أي فجعلنا هذا الإنسان سميعا بصيرا لنبتليه ، ونختبر ماذا يعطى من ثمر بهذه القوى التي أودعناها فيه ، من السمع والبصر ..
وقدّم الابتلاء وهو المسبّب ، على سببه الذي هو السمع والبصر المودعان فيه ـ للإشارة إلى أن الإنسان إنما خلق للابتلاء ، وأنه لم يخلق عبثا .. فهو الكائن الوحيد فى هذه الأرض ، الذي حمل الأمانة ، أمانة التكليف ، التي عرضت على السموات والأرض والجبال ، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ، وحملها الإنسان ..
فالفاء فى قوله تعالى : «فجعلناه» فاء السببية ، أي فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه .. ووصف الإنسان بأنه سميع بصير ، لا بأنه سامع ومبصر ، إشارة إلى أن سمعه وبصره ليس كسمع الحيوان وبصره ، وإنما هو سمع يحوّل المسموعات إلى حقائق ومعان ، تنفذ إلى أعماق المسموع ، وإلى ما وراء دلالات الصوت الذي يقع على الأذن من كل ما يطرقها من مسموعات ، سواءا كان كلمات ، أو غير كلمات ..
وكذلك الشأن فى البصر ، فهو ليس بصرا ينقل الأشياء إلى العين ، كما تنقلها المصوّرة ، وإنما هو بصر يدخل إلى دائرة العقل الذي يكشف عن الحقائق المضمرة فى كيان الشيء المبصر ..