ليس شرّا خالصا ، وأنه يشتمل على قدر كبير من الخير ، وأنه كما فى الناس الأشرار الذين يغلب شرّهم خيرهم ، ويغتال ما فيهم من فطرة ، فإن فى الناس من يغلب خيرهم شرّهم ، وأنهم مستعدون لتلقّى الخير .. وفى هذا إشارة أيضا إلى أنه ليس كلّ النّاس على شاكلة هؤلاء المشركين من قريش ، الذين جمدت عقولهم على هذا الضلال الذي أمسك بها .. ثم إن فى هذا إشارة ثالثة إلى أنه ليس للرسول أن تقوم له الحجة على قومه ، إلا بعد أن يبلغ رسالته إليهم كاملة ، وأن يحتمل فى سبيلها كلّ جهد ، وأن يبذل لها كل قدرة ممكنة لديه ، وإلا كان فى موضع اللوم والعتب ، كما أن المرسل إليهم يكونون تحت طائلة اللوم والعقاب ، لو أنهم دعوا وأبوا أن يستجيبوا .. وهكذا يسوّى حساب الناس عند الله. كلّ يأخذ حقّه كاملا ، يستوى فى هذا الحساب ، الرسل ومن أرسلوا إليهم .. إنهم جميعا عباد الله .. وإنه لا محاباة ولا مجاملة.
ولا شك أن هذه اللّفتة السماوية إلى الإنسان ـ من حيث هو إنسان ـ جديرة بأن تفتح عيونا أعماها الضّلال ، إلى ما لله سبحانه على الإنسان من فضل وإحسان ، وأنه لن تخفّ موازينه عند الله ـ حتى مع أنبيائه وسفرائه إلى خلقه ـ إلا إذا استخفّ الإنسان بميزانه ، واستهان بوجوده ، وقبل أن ينزل راضيا ، عن هذا المقام الكريم الذي أحلّه الله فيه ، فزهد فى عقله ، وأبى أن يوجهه ليرتاد له مواقع الخير.
فهل وقف المشركون من قريش ، وغير قريش ، عند هذا؟ وهل أخذوا بحقّهم الإنسانى فى هذا الوجود؟ وهل هم مستعدّون لأن يثبتوا أنهم أهل لهذا المقام الكريم ، الذي سوّى الله سبحانه وتعالى فيه بين عباد الله ، وبين رسل الله ، فى موقف الحساب والمساءلة؟ ذلك ما يكشف عنه الزمن منهم ، وذلك ما ينجلى عنه الموقف بينهم وبين هذا الرسول الكريم الذي لا يزال معهم.