غيرها يمكن أن يعلمها الجن ، قبل أن يعملها الإنسان الذي فى الطرف الآخر من هذه الوقائع .. وهو فى الواقع ليس من علم الغيب ، وإنما هو مشاهدة ، حيث كان عن واقع محسوس يراه الجن رأى العين .. فهو حضور بالنسبة للجن ، ولكنه غيب بالنسبة للإنسان البعيد عن موقع الحدث .. حيث يرى الجن ـ ولا نرى نحن البشر ـ ما وراء الأبواب المغلقة ، أو الجدر القائمة ، ونحوها .. وهذا غيب بالنسبة لنا ، ولكنه حضور بالإضافة إلى الجن ..
أما الغيب بالنسبة للجن ، فهو الأحداث التي لم تولد بعد ، ولم تخرج إلى عالم الشهود ، كمقدّرات الله فى خلقه ، وما يلقون على طريق حياتهم من خير أو شر .. كالعمر ، والرزق والذرية ، وغير ذلك مما هو مقدر على الإنسان .. ومثل الإنسان فى هذا سائر المخلوقات ، وما قدّره الله لكل مخلوق .. فهذه المقدرات التي هى فى حالة كمون ، لم تتحرك بعد إلى الظهور ، لا يعلمها إلا علام الغيوب ، وإلا من اصطفى من رسله ، فأظهره على بعض ما انطوى فى صحف الغيب.
وموت سليمان بالنسبة للجن هو غيب ، إذ أن الروح التي كانت تلبس سليمان وتضفى عليه الحياة ، هى سر من أسرار الله ، وغيب من غيوبه ، وأمر من أمره ، لا يعلمه إلا هو ، فلما زايلت مكانها من سليمان ، لم يشعر الجن بها ، ولم يعلموا من أمرها شيئا ، وحسبوا سليمان ـ وهو ميت ـ أنه فى غفوة ، أو فى سنة من النوم .. فلما سقطت العصا التي كان يتكىء عليها ، وخرّ ميتا دون حراك ، علم الجن أنه مات ، وتبين لهم من ذلك أنهم لا يعلمون الغيب ، ولو كانوا يعلمون الغيب لعلموا أمر الروح التي زايلت سليمان ، ولعلموا أنه مات ، ولما لبثوا فى قيد التسخير والعمل يوما أو بعض يوم .. إنه عذاب مهين لهم ، وإذلال لسلطانهم ، وقهر لجبروتهم.
* * *