الصورة كانت تتطلع كثير من النفوس إلى هيئتها التي تكون عليها ، لو أنها أطلّت بوجهها ، وكشفت عن حال أصحابها ، كما كشفت الصورة السابقة عن المؤمنين ، وعن حالهم الطيبة المسعدة .. فالمؤمنون بالله ينظرون إلى من خلّفوهم وراءهم على طريق الكفر والضلال ، ليروا ما صنع الله بهم .. وغير المؤمنين ، ينظرون إلى مكانتهم بعد أن رأوا المؤمنين ، وقد ورثوا جنات النعيم.
ولكن كان من رحمة الله بهؤلاء الضالين الغاوين ، أن حجب عنهم صورتهم السيئة المنكرة ، ولم يكشف لهم عن المصير المشئوم الذي هم صائرون إليه ، إذا وقفوا حيث هم على موارد الضلال والغواية.
وبدلا من أن يكشف الله لهم عن حالهم السيئة ، وينزلهم منازل الهون والبلاء ـ دعاهم إليه ، ومنحهم فرصة أخرى ، يراجعون فيها أنفسهم ، ويتدبرون حالهم ، ويرجعون إلى الله من قريب ، ليكونوا فى المؤمنين المفلحين ، فعرض عليهم سبحانه وتعالى شيئا من مظاهر قدرته ، وعلمه ، وحكمته .. يجدونها ـ لو عقلوا ـ فى أقرب شىء إليهم .. فى أنفسهم ، وفى عجائب قدرة الله ، وبالغ حكمته .. إذ أخرج من التراب هذا الإنسان ، السميع البصير ، العاقل ، الناطق ، الذي عمر هذه الأرض ، وتسلّط على حيوانها ونباتها وجمادها ..
ففى هذه النظرة التي ينظر بها الإنسان إلى نفسه ، وإلى أصل نشأته ، وتطوره فى الحياة ، وتنقله فى الخلق ـ فى هذه النظرة ، يرى الإنسان أن يدا حكيمة قادرة ، هى التي أوجدته ، وأخرجته على هذه الصورة ، التي لا وجه للشبه بينها وبين هذا التراب الهامد الذي ولدت منه .. فكيف لا يولى الإنسان وجهه إلى الذي فطره وصوّره ، وأقامه على هذا العالم الأرضى خليفة لله فيه؟ وكيف لا يدين لخالقه ورازقه بالطاعة والولاء؟ ثم كيف يعطى يديه ، ويسلم زمامه لأحجار ينحتها ، أو لحيوان يربيه ، أو لإنسان هو مخلوق مثله؟ ذلك ضلال مبين.