وانظر كيف بدأ هذا الحديث .. بتلك القافات المتكررة ، وما فيها من ثقل وتقلّع ، ثم تلك الواوات والياءات ، وما فيها من رخاوة وتميّع .. إنك لو ذهبت تسرع بقراءة الآية الكريمة : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) لما استجاب لك لسانك ، ولعقلته تلك الكلمات والحروف ، عن أن يجاوز الحركة البطيئة المقدورة له فى هذا الموقف .. وإلّا تعثّر واضطرب.
ثم يأخذ النعاس ينجلى شيئا فشيئا ، حتى يصحو القوم صحوة واعية ، فإذاهم يتدبرون أمرهم ، ويأخذون فى العمل .. وإذا الكلمات تحيا على شفاههم ، وتأخذ طريقا جادّا حازما ..
ـ (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً)!
* * *
وينتقل المنظر من الكهف إلى المدينة .. وإذا رسول الجماعة يسعى هناك ، مقتصدا فى مشيته ، مكثرا من التلفّت التائه فى هذا العالم الغريب ، الذي يراه كما يرى النائم حلما يطوّف به فى عالم غير عالمه الذي عاش فيه!
وفجأة ينكشف أمر الرجل لأهل المدينة ، وإذا هو ظاهرة غريبة ، أشبه بالظواهر الكونية التي تبغت الناس .. وإذا رجّة طاغية تستولى على المدينة كلها ، وإذا الناس جميعا إلى حيث الرجل ، كأنما يساقون إلى الحشر ..
والذي انكشف للقوم من غرابة الرجل ، هو غرابة هيئته فى زيّه ، ثم إن الذي نمّ عليه كذلك ، هو هذا النقد الذي قدّمه ليشترى به طعاما ..
فالزّى الذي يتزيّا به الرجل قديم ، من زمن مضى لا يلتقى مع زىّ القوم فى هذا الوقت الذي طلع عليهم فيه ، إذ أن الناس يستحدثون فى كل زمن زيّا