وفى الآية الكريمة صورة كاشفة لهذا الإنسان الذي مكّن الله سبحانه وتعالى له من القوى الجسدية والعقلية ، فاتخذ منها أسلحة يحارب بها الله ، ويتسلّط بها على خلق الله ، فلو أنه عقل ونظر إلى نفسه فى مرآة الزمن ، حين يمتد به العمر ، لرأى كيف يكون حاله من الضعف والوهن .. وإذن لأقام حسابه مع هذه القوة التي بين يديه على العدل والإحسان ، ولأبقى لنفسه رصيدا من الخير والمعروف .. يحتفظ به فى يد الحياة ، لتقدّمه له فى تلك المرحلة الحرجة فى حياته ..
قوله تعالى : (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ .. فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) ..؟
هذا التفاوت بين الناس ، فيما فضّل الله به بعضهم على بعض ، فى الرزق ، يشير إشارة صريحة إلى أنه ينبغى أن يكون هناك تفاوت بين الخالق والمخلوق .. ذلك أنه إذا كان الناس وهم من صنعة الخالق ، لم يطبعهم الله سبحانه وتعالى على صورة واحدة ، ولم يقمهم فى الحياة على درجة واحدة ، بل خالف بينهم فى الصورة ، واللون ، ففيهم الوسيم والدميم ، والطويل والقصير ، والأبيض والأسود ـ كذلك قسم الله معيشتهم فى الدنيا ، فجعل فيهم الغنىّ والفقير ، والمالك والمملوك ـ فكيف يسوغ بعد هذا أن يسوّى بين الخالق وما خلق؟
فهؤلاء الذين وسع الله لهم فى الرزق ، وملأ أيديهم من الجاه والمال والسلطان ـ أيكون منهم من يردّ ما بين يديه من مال ومتاع على من تحت يده من عبيد وإماء ، حتى يسوّى بينه وبينهم فى المأكل والمشرب ، والملبس ، وفى كل مظاهر الحياة؟ ذلك ما لا يكون ، وإن كان شىء منه ، فهو واقع ـ فى صورة لا تزيل الفارق بينه وبين من تحت يده ، وإن ارتفع بهم شيئا قليلا!