ـ (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) وتلك أول أمارة من أمارات الكذب الذي جاءوا به .. إنهم جاءوا ملففين فى ظلام اللّيل ، خوفا من أن يفضحهم ضوء النهار ، ويمزّق هذا القناع الزائف المموه بتلك الدموع الكاذبة ، التي بلّلوا بها خدودهم.
إن العين إذا التقت بالعين كشفت عن كثير من خفايا النفس ، وقرأت ما لا يصرّح به اللسان ، ولا تبوح به الكلمات .. ولهذا يجرؤ الإنسان على أن يقول فى الظلام ، ما لم يكن يقوله فى النور ، حين تلتقى العين بالعين!!
إنه يخبط خبط عشواء ، ويرمى بالكلام فى غير مبالاة! إن العين هى حاسّة الحياء ، وموطن الاستحياء .. ولا ينكشف ذلك لها إلا وهى مبصرة .. ولهذا ، فإن أصحاب الحياء يضعون أيديهم على أعينهم ، حين يرون ما يستحيا منه ، أو ينطقون بكلمة تخدش الحياء ..
ثم كان البكاء فضيحة أخرى لهم .. إنّه تباك وليس بكاء .. إنه أصوات ليس فيها حرقة الكبد ، وزفرة الصدر الكليم! والاذن قادرة على أن تميز التباكي من البكاء ، وتفرق بينهما! وفد عرف يعقوب هذه القصّة الملفقة من أول لقاء ببنيه ، ولأول كلمة سمعها منهم!
ـ وفى قولهم : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) فضيحة ثالثة ، تفضح هذا الباطل ، وتكشف عن هذا الزور .. إنهم يتهمون أباهم ـ مقدّما ـ بأنه لن يقبل شهادتهم تلك ، لأنهم هم ـ فى الواقع ـ لا يقبلونها فيما بينهم وبين أنفسهم .. ولو أنهم كانوا صادقين حقّا لما وقع فى تصوّرهم هذا ، ولما توقعوه قبل أن يقع .. إنهم اتهموا أنفسهم بقولهم: (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) .. اتهموها قبل أن يتهمهم أبوهم .. وهكذا شأن كل متّهم .. إنه يتهم