لأن الله سبحانه وتعالى يقول : (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ) فهو مبعوث من عند الله لهذا الأمر.
أما الندم الذي كان من هذا القاتل ، فهو مما أثاره ما فعل الغراب .. هذا الحيوان الأعجم ، الذي أقبل على جثة القتيل ، يلقى عليها التراب ، بما يحفر بقدميه حولها ، حتى لكأنه يريد أن يواريها عن الأنظار ، ويحميها من أن تنهشها السباع والطيور.
وهنا يتنبه هذا القاتل إلى وجوده ، وإلى شناعة الإثم الذي ارتكبه ، وأن هذا القتيل مظلوم ، حتى استدعى ظلمه الحيوان الأعجم ، ليكون إلى جانبه ، حين تخلّى عنه أخوه ، وأبى عليه إلا أن يكون طعاما للسباع والطير .. وهنا أيضا يستشعر القاتل الندم ، ويقع ليقينه أنه قتل هذا القتيل عدوانا وظلما. ولهذا وجد عاطفة الأخوّة تستيقظ فى نفسه ، تلك العاطفة التي كانت قد أماتها الحسد ، وذهب بكل أثر لها .. وذلك ما يشير إليه القرآن الكريم فى قوله تعالى على لسان هذا القاتل : (يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي) .. أخى .. هكذا يقولها بملء فيه ، ومن قلب يفيض حسرة وندما!
(فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) أي أنه لم يكن يجد شيئا من الندم ، قبل أن يرى ما فعل الغراب ، ثم أصبح بعد ذلك من النادمين ، إذ رأى نفسه أضأل من هذا الحيوان شأنا ، وأعمى بصيرة ، وأضلّ سبيلا .. وهكذا الإنسان ، إذا غلبه الهوى ، وركبه الضلال ، كان أحط مرتبة فى عالم الحيوان ، والله سبحانه وتعالى يقول : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ..) (٤ ـ ٦ التين).