ليست العبادة نفس الخضوع أو نهايته
إنّ الخضوع والتذلّل حتى إظهار نهاية التذلّل لا يساوي العبادة ولا يعدّ حدّاً منطقياً لها ، بشهادة أنّ خضوع الولد أمام والده ، والتلميذ أمام أُستاذه ، والجنديُّ أمام قائده ، ليس عبادة لهم وإن بالغوا في الخضوع والتذلّل حتى ولو قبّل الولدُ قدمَ الوالدين ، لا يعد عمله عبادة ، لأنّ الله سبحانه يقول : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) (الإسراء / ٢٤).
وأوضح دليل على أنّ الخضوع المطلق وإن بلغ النهاية لا يعدّ عبادة هو أنّه سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم وقال : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) (البقرة / ٣٤) وآدم كان مسجوداً له ككونه سبحانه مسجوداً له ، مع أنّ الأوّل لم يكن عبادة وإلّا لم يأمر به سبحانه ، إذ كيف يأمر بعبادة غيره وفي الوقت نفسه ينهى عنها بتاتاً في جميع الشرائع من لدن آدم عليهالسلام إلى الخاتم صلىاللهعليهوآلهوسلم ولكن الثاني أي الخضوع لله ، عبادة.
والله سبحانه يصرّح في أكثر من آية بأنّ الدعوة إلى عبادة الله سبحانه والنهي عن عبادة غيره ، كانت أصلاً مشتركاً بين جميع الأنبياء ، قال سبحانه : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل / ٣٦) وقال سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء / ٢٥) وفي موضع آخر من الكتاب يعد سبحانه التوحيد في العبادة : الأصل المشترك بين جميع الشرائع السماوية ، إذ يقول : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) (آل عمران / ٦٤) ، ومعه كيف يأمر بسجود الملائكة لآدم الذي هو من مصاديق الخضوع النهائي؟ وهذا الإشكال لا يندفع إلّا بنفي كون مطلق الخضوع عبادة ، ببيان أنّ للعبادة مقوّماً آخر ـ كما سيوافيك ـ لم يكن موجوداً في سجود الملائكة لآدم.