خاصّة إذا لم يوجد غيرهما ، (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ) أراد : تحبسونهما من بعد صلاة العصر إن ارتبتم في شهادتهما ، وخشيتم أن يكونا قد خانا ، أو بدّلا فإذا حلفا ، مضت شهادتهما ، فإن عثر أي : ظهر على أنّهما استحقّا إثما ، أي : حنثا في اليمين بكذب أو خيانة ، فآخران ، أي : قام في اليمين مقامهما رجلان من قرابة الميّت الذين استحقّ منهم الأوليان ، وهما الوليّان يقال : هذا الأولى بفلان ، ثم يحذف من الكلام «بفلان» فيقال : هذا الأولى ، وهذان الأوليان ، و «عليهم» بمعنى : «منهم» فيحلفان بالله : لقد ظهرنا على خيانة الذّمّيين ، وكذبهما ، وما اعتدينا عليهما ، ولشهادتنا أصحّ ، لكفرهما وإيماننا ، فيرجع على الذّمّيين بما اختانا ، وينقض ما مضى من الحكم بشهادتهما تلك. وقال غيره : لشهادتنا ، أي : ليميننا أحقّ ، وسمّيت اليمين شهادة ، لأنها كالشّهادة على ما يحلف عليه أنه كذلك. قال المفسّرون : فلمّا نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص ، والمطّلب بن أبي وداعة السّهميّان ، فحلفا بالله ، ودفع الإناء إليهما وإلى أولياء الميّت.
(ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨))
قوله تعالى : (ذلِكَ أَدْنى) أي : ذلك الذي حكمنا به من ردّ اليمين ، أقرب إلى إتيان أهل الذّمّة بالشّهادة على وجهها ، أي : على ما كانت ، وأقرب أن يخافوا أن تردّ أيمان أولياء الميّت بعد أيمانهم ، فيحلفون على خيانتهم ، فيفتضحوا ، ويغرّموا ، فلا يحلفون كاذبين إذا خافوا ذلك. (وَاتَّقُوا اللهَ) أن تحلفوا كاذبين ، أو تخونوا أمانة ، واسمعوا الموعظة.
(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩))
قوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) قال الزجّاج : نصب «يوم» محمول على قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) : واتّقوا يوم جمعه للرّسل. ومعنى مسألته للرّسل توبيخ الذين أرسلوا إليهم. فأمّا قول الرّسل : (لا عِلْمَ لَنا) ففيه ستة أقوال (١) : أحدها : أنهم طاشت عقولهم حين زفرت جهنّم ، فقالوا : (لا عِلْمَ لَنا) ثم تردّ إليهم عقولهم ، فينطلقون بحجّتهم ، رواه أبو الضّحى عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، ومجاهد ، والسّدّيّ. والثاني : أن المعنى (لا عِلْمَ لَنا) إلّا علم أنت أعلم به منّا ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث : أنّ المراد بقوله تعالى : (ما ذا أُجِبْتُمْ) : ما ذا عملوا بعدكم ، وأحدثوا ، فيقولون : (لا عِلْمَ لَنا) ، قاله ابن جريج ، وفيه بعد. والرابع : أنّ المعنى : (لا عِلْمَ لَنا) مع علمك ، لأنك تعلم الغيب ، ذكره الزجّاج. والخامس : أنّ المعنى : (لا عِلْمَ لَنا) كعلمك ، إذ كنت تعلم ما أظهر القوم وما أضمروا ، ونحن نعلم ما أظهروا ، ولا نعلم ما أضمروا ، فعلمك فيهم أنفذ من علمنا ، هذا اختيار ابن الأنباريّ. والسادس : (لا عِلْمَ لَنا) بجميع أفعالهم إذ كنّا نعلم بعضها وقت حياتنا ، ولا نعلم ما كان بعد وفاتنا ، وإنّما يستحقّ الجزاء بما تقع به الخاتمة ، حكاه ابن الأنباريّ. قال المفسّرون : إذا ردّ الأنبياء
__________________
(١) صوب الإمام الطبري رحمهالله ٥ / ١٢٦ ، القول الثاني.