وحول الشّيء : ما دار من جوانبه. والهاء : عائدة على المستوقد. فإن قيل : كيف وحّد ، فقال : (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ) ، ثم جمع فقال : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ)؟ فالجواب : أن ثعلبا حكى عن الفرّاء أنه قال : إنما ضرب المثل للفعل ، لا لأعيان الرجال ، وهو مثل للنفاق ، وإنما قال : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) لأن المعنى ذاهب إلى المنافقين ، فجمع لذلك. قال ثعلب : وقال غير الفرّاء : معنى الذي : الجمع ، وحّد أولا للفظه ، وجمع بعد لمعناه ، كما قال الشاعر (١) :
فإن الذي حانت بفلج دماؤهم |
|
هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد (٢) |
فجعل «الذي» جمعا.
فصل : اختلف العلماء في الذي ضرب الله تعالى له هذا المثل من أحوال المنافقين على قولين : أحدهما : أنه ضرب لكلمة الإسلام التي يلفظون بها ، ونورها صيانة النفس وحقن الدّماء ، فإذا ماتوا سلبهم الله ذلك العزّ ، كما سلب صاحب النّار ضوءه. وهذا المعنى مرويّ عن ابن عباس. والثاني : أنه ضرب لإقبالهم على المؤمنين وسماعهم ما جاء به الرسول ، فذهاب نورهم : إقبالهم على الكافرين والضلال ، وهذا قول مجاهد.
وفي المراد ب «الظلمات» ها هنا أربعة أقوال : أحدها : العذاب ، قاله ابن عباس. والثاني : ظلمة الكفر ، قاله مجاهد. والثالث : ظلمة يلقيها الله عليهم بعد الموت ، قاله قتادة. والرابع : أنها نفاقهم ، قاله السّدّيّ.
فصل : وفي ضرب المثل لهم بالنار ثلاث حكم : إحداهنّ : أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره ، لا من قبل نفسه ، فإذا ذهبت تلك النار بقي في ظلمة ، فكأنهم لما أقروا بألسنتهم من غير اعتقاد قلوبهم ؛ كان نور إيمانهم كالمستعار. والثانية : أن ضياء النار يحتاج في دوامه إلى مادة الحطب ، وهو له كغذاء الحيوان ، فكذلك نور الإيمان يحتاج إلى مادة الاعتقاد ليدوم. والثالثة : أن الظلمة الحادثة بعد الضوء أشدّ على الإنسان من ظلمة لم يجد معها ضياء ، فشبّه حالهم بذلك.
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨))
قوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ). الصّمم : انسداد منافذ السمع ، وهو أشد من الطّرش.
وفي البكم ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الخرس ، قاله مقاتل ، وأبو عبيد ، وابن فارس. والثاني : أنه عيب في اللسان لا يتمكن معه من النطق ، وقيل : إن الخرس يحدث عنه. والثالث : أنه عيب في الفؤاد يمنعه أن يعي شيئا فيفهمه ، فيجمع بين الفساد في محل الفهم ومحل النطق. ذكر هذين القولين شيخنا. وقوله تعالى : (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ). فيه ثلاثة أقوال : أحدها : لا يرجعون عن ضلالتهم ، قاله قتادة ومقاتل. والثاني : لا يرجعون إلى الإسلام ، قاله السّدّيّ. والثالث : لا يرجعون عن الصّمم والبكم والعمى ، وإنما أضاف الرجوع إليهم ، لأنهم انصرفوا باختيارهم ، لغلبة أهوائهم عن تصفّح الهدى بآلات
__________________
(١) هو الأشهب بن رميلة. انظر «المعجم المفصّل».
(٢) في «اللسان» فلج : اسم بلد وقيل : هو واد بطريق البصرة إلى مكة ببطنه منازل للحاج.