قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) قال مجاهد : افتخر المسلمون واليهود ، فقالت اليهود : بيت المقدس أفضل من الكعبة. وقال المسلمون : الكعبة أفضل. فنزلت هذه الآية. وفي معنى كونه أوّلا قولان : أحدهما : أنه أوّل بيت كان في الأرض ، واختلف أرباب هذا القول ، كيف كان أوّل بيت على ثلاثة أقوال : أحدها : أنه ظهر على وجه الماء حين خلق الله الأرض ، فخلقه قبلها بألفي عام ، ودحاها من تحته ، فروى سعيد المقبريّ عن أبي هريرة قال : كانت الكعبة حشفة (١) على وجه الماء ، عليها ملكان يسبّحان الليل والنّهار قبل الأرض بألفي سنة. وقال ابن عباس : وضع البيت في الماء على أربعة أركان قبل أن تخلق الدنيا بألفي سنة ، ثم دحيت الأرض من تحت البيت ، وبهذا القول يقول ابن عمر ، وابن عمرو ، وقتادة ، ومجاهد ، والسّدّيّ في آخرين. والثاني : أن آدم استوحش حين أهبط ، فأوحى الله إليه ، أن : ابن لي بيتا في الأرض ، فاصنع حوله نحو ما رأيت ملائكتي تصنع حول عرشي ، فبناه ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس. والثالث : أنه أهبط مع آدم ، فلما كان الطّوفان ، رفع فصار معمورا في السماء ، وبنى إبراهيم على أثره ، رواه شيبان عن قتادة. القول الثاني : أنه أوّل بيت وضع للناس للعبادة ، وقد كانت قبله بيوت ، هذا قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، والحسن ، وعطاء بن السّائب في آخرين.
فأما بكّة ، فقال الزجّاج : يصلح هذا الاسم أن يكون مشتقا من البكّ. يقال : بكّ الناس بعضهم بعضا ، أي : دفع. واختلفوا في تسميتها ببكّة على ثلاثة أقوال : أحدها : لازدحام الناس بها ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وقتادة ، والفرّاء ، ومقاتل. والثاني : لأنها تبكّ أعناق الجبابرة ، أي : تدقّها ، فلم يقصدها جبّار إلا قصمه الله ، روي عن عبد الله بن الزّبير ، وذكره الزجّاج. والثالث : لأنها تضع من نخوة المتجبّرين ، يقال : بككت الرجل ، أي : وضعت منه ، ورددت نخوته ، قاله أبو عبد الرحمن اليزيديّ ، وقطرب. واتفقوا على أنّ مكّة اسم لجميع البلدة. واختلفوا في بكّة على أربعة أقوال : أحدها : أنه اسم للبقعة التي فيها الكعبة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو مالك ، وإبراهيم ، وعطيّة. والثاني : أنها ما حول البيت ، ومكّة ما وراء ذلك ، قاله عكرمة. والثالث : أنها المسجد ، والبيت. ومكّة : اسم للحرم كلّه ، قاله الزّهريّ ، وضمرة بن حبيب. والرابع : أن بكّة هي مكّة ، قاله الضّحّاك ، وابن قتيبة ، واحتجّ ابن قتيبة بأن الباء تبدل من الميم ؛ يقال : سمد رأسه ، وسبد رأسه : إذا استأصله. وشرّ لازم ، ولازب.
قوله تعالى : (مُبارَكاً) قال الزجّاج : هو منصوب على الحال. المعنى : الذي استقرّ بمكّة في حال بركته. (وَهُدىً) ، أي : وذا هدى. ويجوز أن يكون «هدى» في موضع رفع ، المعنى : وهو هدى. فأمّا بركته ، ففيه تغفر الذنوب ، وتضاعف الحسنات ، ويأمن من دخله.
(١٩٧) وروى ابن عمر عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «من طاف بالبيت ، لم يرفع قدما ، ولم يضع
____________________________________
(١٩٧) حسن بشواهده. أخرجه الترمذي ٩٥٩ وابن خزيمة ٢٧٥٣ وابن حبان ٣٦٩٧ والحاكم ١ / ٤٨٩ من طريق جرير بن عبد الحميد عن عطاء بن السائب عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن أبيه عن ابن عمر مرفوعا.
__________________
(١) في «القاموس» : الحشفة صخرة رخوة حولها سهل من الأرض ، أو صخرة تنبت في البحر.