في عمى العين عند الخليل وسيبويه (١) : لأن عمى العين شيء ثابت مرئيّ ، كاليد والرجل ، فكما لا تقول : ما أيداه لا تقول : ما أعماه ، وفيه قولان آخران : قال الأخفش سعيد : إنّما لم يقل ما أعماه ؛ لأن الأصل في فعله اعميّ واعمايّ ، ولا يتعجّب مما جاوز الثلاثة إلّا بزيادة. والقول الثاني أنهم فعلوا هذا للفرق بين عمى القلب ، وكذا لم يقولوا في الألوان : ما أسوده ليفرقوا بينه وبين قولهم ما أسوده من السّؤدد وأتبعوا بعض الكلام بعضا. قال أبو جعفر : وسمعت أبا إسحاق يقول : إنما لم يقولوا : ما أقيله من القائلة ؛ لأنهم قد يقولون في البيع : قلته ففرّقوا بينهما. وحكى الفراء (٢) عن بعض النحويين ما أعماه وما أعشاه وما أزرقه وما أعوره. قال : لأنهم يقولون : عمي وعشي وعور ، وأجاز الفراء : في الكلام والشعر ما أبيضه وسائر الألوان ، وكذا عنده. وقال محمد بن يزيد في قوله جلّ وعزّ : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) أن يكون من قولك : «فلان أعمى» لا يريد أشدّ عمى من غيره. قال أبو جعفر : والقول الأول أولى ليكون المعنى عليه لأن بعده (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) أي منه في الدنيا ، ولهذا روي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال : تجوز الإمالة في قوله جلّ وعزّ : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى) ، ولا تجوز الإمالة في قوله (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى). يذهب إلى أن الألف في الثاني متوسطة لأن تقديره أعمى منه في الدنيا ولو لم يرد هذه لجازت الإمالة. قال أبو إسحاق : (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) أي طريقا إلى الهدى ؛ لأنه قد حصل على عمله لا سبيل له إلى التوبة.
(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) (٧٣)
(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) وزن كاد فعل على لغة أهل الحجاز وبني أسد ، وبنو قيس يقولون : كدت ، فهي عندهم فعلت ، وقيل : إنهم فعلوا هذا ليفرقوا بينه وبين كدت من الكيد.
(وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (٧٤)
قيل : ثبّته الله جلّ وعزّ بالعصمة ، وقيل : ثبّته بالوحي وإعلامه أنه لا ينبغي أن يركن إليهم فإنهم أعداء. ويقال : ركن يركن ، وركن يركن أفصح.
(إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) (٧٥)
(إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) فكان في هذا أعظم العظة للناس إذ كان الله جلّ وعزّ أخبر بحكمه في الأنبياء المصطفين صلّى الله عليهم إذا عصوا.
__________________
(١) انظر الكتاب ٤ / ٢١٤.
(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ١٢٨.