راحوا بصائرهم على أكتافهم |
|
وبصيرتي يعدو بها عتد وأى |
وفسر الناس هذا البيت بطريقة الدم إذ كانت عادة طالب الدم عندهم أن يجعل طريقة من دم خلف ظهره ليعلم بذلك أنه لم يدرك ثأره وأنه يطلبه ، ويظهر فيه أنه يريد بصيرة القلب ، أي قد اطرح هؤلاء بصائرهم وراء ظهورهم.
وقوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ) الآية قول يقتضي أنه نزل بسبب افتخار كان للكفار على المؤمنين قالوا لئن كانت آخرة كما تزعمون لنفضلن عليكم فيها كما فضلنا في الدنيا. و : (أَمْ) هذه ليست بمعادلة ، وهي بمعنى بل مع ألف الاستفهام. و : (اجْتَرَحُوا) معناه : اكتسبوا ، ومنه جوارح الإنسان ، ومنه الجوارح في الصيد ، وتقول العرب : فلان جارحة أهله ، أي كاسبهم.
وقرأ أكثر القراء : «سواء» بالرفع «محياهم ومماتهم» بالرفع ، وهذا على أن «سواء» رفع بالابتداء «ومحياهم ومماتهم» خبره. و : (كَالَّذِينَ) في موضع المفعول الثاني ل «نجعل» ، وهذا على أحد معنيين : إما أن يكون الضمير في (مَحْياهُمْ) يختص بالكفار المجترحين ، فتكون الجملة خبرا عن أن حالهم في الزمنين حال سوء. والمعنى الثاني : أن يكون الضمير في (مَحْياهُمْ) يعم الفريقين ، والمعنى : أن محيا هؤلاء ومماتهم سواء ، وهو كريم ، ومحيا الكفار ومماتهم سواء ، وهو غير كريم ، ويكون اللفظ قد لف هذا المعنى وذهن السامع يفرقه ، إذ تقدم أبعاد أن يجعل الله هؤلاء كهؤلاء. قال مجاهد : المؤمن يموت مؤمنا ويبعث مؤمنا ، والكافر يموت كافرا ويبعث كافرا.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : مقتضي هذا الكلام أن لفظ الآية خبر ، ويظهر لي أن قوله : (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) داخل في المحسبة المنكرة السيئة ، وهذا احتمال ، والأول أيضا جيد.
وقرأ طلحة وعيسى بخلاف عنه : «سواء» بالنصب ، «محياهم ومماتهم» بالرفع ، وهذا يحتمل وجهين أحدهما أن يكون قوله : (كَالَّذِينَ) في موضع المفعول الثاني ل «جعل» كما هو في قراءة الرفع ، وينصب قوله : «سواء» على الحال من الضمير في : (نَجْعَلَهُمْ). والوجه الثاني أن يكون قوله : (كَالَّذِينَ) في نية التأخير ، ويكون قوله : «سواء» مفعولا ثانيا ل «جعل» ، وعلى كلا الوجهين : «محياهم ومماتهم» مرتفع ب «سواء» على أنه فاعل. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم والأعمش «سواء» بالنصب «محياهم ومماتهم» بالنصب وذلك على الظرف أو على أن يكون «محياهم» بدلا من الضمير في : (نَجْعَلَهُمْ) أي نجعل محياهم ومماتهم سواء ، وهذه الآية متناولة بلفظها حال العصاة من حال أهل التقوى ، وهي موقف للعارفين فيكون عنده فيه ، وروي عن الربيع بن خيثم أنه كان يرددها ليلة جمعاء ، وكذلك عن الفضيل بن عياض ، وكان يقول لنفسه : ليت شعري من أي الفريقين أنت ، وقال الثعلبي : كانت هذه الآية تسمى مبكاة العابدين.
قال القاضي أبو محمد : وأما لفظها فيعطي أنه اجتراح الكفر بدليل معادلته بالإيمان ، ويحتمل أن تكون المعادلة بين الاجتراح وعمل الصالحات ، ويكون الإيمان في الفريقين ، ولهذا ما بكى الخائفون رضوان الله عليهم ، وإما مفعولا (حَسِبَ) فقولهم (أَنْ نَجْعَلَهُمْ) يسد مسد المفعولين. وقوله : (ساءَ ما