وحكم عليهم بالإجرام المضمن للكفر حين يئس منهم ، وهنا أيضا محذوف من الكلام تقديره : فقال الله له : (فَأَسْرِ بِعِبادِي) وهذا هو الأمر الذي أنفذه الله إلى موسى بالخروج من ديار مصر ببني إسرائيل ، وقد تقدم شرحه وقصصه في سورة الأنبياء وغيرها.
وقرأ جمهور الناس : «فاسر» موصولة الألف. وقرأ : «فأسر» بقطع الألف : الحسن وعيسى ، ورويت عن أبي عمرو. وأعلمه تعالى بأنهم (مُتَّبَعُونَ) ، أي يتبعهم فرعون وجنوده.
واختلف المفسرون في قوله تعالى : (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) متى قالها لموسى؟ فقالت فرقة : هو كلام متصل (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ) إذا انفرق لك (رَهْواً). وقال قتادة وغيره : خوطب به بعد ما اجتاز البحر وخشي أن يدخل فرعون وقومه وراءه ، وأن يخرجوا من المسالك التي خرج منها بنو إسرائيل ، فهم موسى أن يضرب البحر عسى أن يلتئم ويرجع إلى حاله ، فقيل له عند ذلك : (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً).
واختلفت عبارة المفسرين في تفسير الرهو ، فقال مجاهد وعكرمة معناه : يبسا من قوله تعالى : (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً) [طه : ٧٧]. وقال الضحاك بن مزاحم معناه : دمثا لينا. وقال عكرمة أيضا : جردا. وقال ابن زيد : سهلا. وقال ابن عباس معناه : ساكنا ، أي كما جزته ، وهذا القول الأخير هو الذي تؤيده اللغة ، فإن العيش الواهي هو الذي هو في خفض ودعة وسكون ، حكاه المبرد وغيره. والرهو في اللغة هو هذا المعنى ، ومنه قول عمرو بن شييم القطامي :
يمشون رهوا فلا الأعجاز خاذلة |
|
ولا الصدور على الأعجاز تتكل |
فإنما معناه : يمشون اتئادا وسكونا وتماهلا. ومنه قول الآخر :
وأمة خرجت رهوا إلى عيد
أي خرجوا في سكون وتماهل ، فقيل لموسى عليهالسلام : اترك البحر ساكنا على حاله من الانفراق ليقضي الله أمرا كان مفعولا. والرهو : من أسماء الكركي الطائر ، ولا مدخل له في تفسير هذه الآية ، ويشبه عندي أن سمي رهوا لسكونه ، وأنه أبدا على تماهل.
وقوله : (كَمْ تَرَكُوا) الآية ، قبله محذوف تقديره : فغرقوا وقطع الله دابرهم ، ثم أخذ يعجب من كثرة ما تركوا من الأمور الرفيعة الغبيطة في الدنيا ، و : (كَمْ) خبر للتكثير. والجنات والعيون : روي أنها كانت متصلة ضفتي النيل جميعا من رشيد إلى أسوان. وأما العيون فيحتمل أنه أراد الخلجان الخارجة من النيل فشبهها بالعيون ، ويحتمل أنه كانت ثم عيون ونضبت كما يعتري في كثير من بقاع الأرض.
وقرأ قتادة ومحمد بن السميفع اليماني ونافع في رواية خارجة عنه : «ومقام» بضم الميم ، أي موضع إقامة. وكذلك قرأ اليماني في كل القرآن إلا في مريم (خَيْرٌ مَقاماً) [مريم : ٧٣] فكأن المعنى : (كَمْ تَرَكُوا) من موضع حسن كريم في قدره ونفعه. وقرأ جمهور الناس ونافع : «ومقام» بفتح الميم ، أي موضع قيام ، فعلى هذه القراءة قال ابن عباس ومجاهد وابن جبير : أراد المنابر. وعلى ضم الميم في : «مقام» قال قتادة : أراد المواضع الحسان من المساكن وغيرها ، والقول بالمنابر بهي جدا.