وقوله تعالى : (آلِهَتُنا) ابتداء معنى ثان ، وذلك أنه لما نزلت (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨] جاء عبد الله بن الزعبري ونظراؤه فقالوا : نحن نخصم محمدا : آلهتنا خير أم عيسى؟ وعلموا أن الجواب أن يقال عيسى ، قالوا ، وهذه آية الحصب لنا أو لكل الأمم من الكفار فقال النبي عليهالسلام : بل لكل من تقدم أو تأخر من الكفار ، فقالوا نحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى ، إذ هو خير منها ، وإذ قد عبد فهو من الحصب إذا ، فقال : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) أي ما مثلوا هذا التمثيل إلا جدلا منهم ومغالطة ، ونسوا أن عيسى لم يعبد برضى منه ولا عن إرادة ، ولا له في ذلك ذنب.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : «أأالهتنا» بهمزة استفهام وهمزة بعدها بين بين وألف بعدها. وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي : بهمزتين مخففتين بعد الثانية ألف. وقرأ ورش عن نافع : بغير استفها : «آلهتنا» على مثال الخبر. وقرأ قالون عن نافع : «ءالهتنا» على الاستفهام بهمزة واحدة بعدها مدة. وفي مصحف أبي بن كعب : «خير أم هذا» ، فالإشارة إلى محمد ، وخرجت هذه القراءة على التأويل الأول الذي فسرناه ، وكذلك قالت فرقة ممن قرأ : (أَمْ هُوَ) إن الإرادة محمد عليهالسلام ، وهو قول قتادة. وقال ابن زيد والسدي المراد ب (هُوَ) عيسى ، هذا هو المترجح.
والجدال عند العرب : المحاورة بمغالطة أو تحقيق أو ما اتفق من القول إنما المقصد به أن يغلب صاحبه في الظاهر إلا أن يتطلب الحق في نفسه ، وروى أبو أمامة عن النبي عليهالسلام أنه قال : «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أتوا الجدل» ، ثم قرأ : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) قال أبو أمامة : ورأى عليهالسلام قوما يتنازعون ، فغضب حتى كأنما صب في وجهه الخل ، وقال : «لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، فما ضل قوم إلا أوتوا الجدل» ثم أخبر تعالى عنهم أنهم أهل خصام ولدد ، وأخبر عن عيسى أنه عبد أنعم الله عليه بالنبوءة والمنزلة العالية ، وجعله مثلا لبني إسرائيل.
وقوله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ) الآية ، أي لا تستغربوا أن يخلق عيسى من غير فحل ، فإن القدرة تقضي ذلك وأكثر منه.
وقوله : (لَجَعَلْنا مِنْكُمْ) معناه : لجعلنا بدلا منكم ، أي لو شاء الله لجعل بدلا من بني آدم ملائكة يسكنون الأرض ويخلفون بني آدم فيها. وقال مجاهد وابن عباس : يخلف بعضهم بعضا. والضمير في قوله : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ) قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك وابن زيد : الإشارة به إلى عيسى. وقالت فرقة : إلى محمد عليهالسلام. وقال الحسن أيضا وقتادة : إلى القرآن.
وقرأ جمهور الناس : «لعلم» بكسر العين وسكون اللام. وقرأ ابن عباس وأبو هريرة وقتادة وأبو هند الغفاري ومجاهد وأبو نضرة ومالك بن دينار والضحاك : «لعلم» بفتح العين واللام ، وقرأ عكرمة مولى ابن عباس : «للعلم» بلامين ، الأولى مفتوحة. وقرأ أبي بن كعب : «لذكر للساعة».
فمن قال إن الإشارة إلى عيسى حسن مع تأويله علم وعلم أي هو إشعار بالساعة وشرط من أشراطها ،