من التقدير والموازنة ، وقوله تعالى : (فَهَدى) عام لوجوه الهدايات فقال الفراء : معناه هدى وأضل ، واكتفى بالواحدة لدلالتها على الأخرى ، وقال مقاتل والكلبي : هدى الحيوان إلى وطء الذكور الإناث ، وقيل هدى المولود عند وضعه إلى مص الثدي ، وقال مجاهد : هدى الناس للخير والشر ، والبهائم للمراتع ..
قال القاضي أبو محمد : وهذه الأقوال مثالات ، والعموم في الآية أصوب في كل تقدير وفي كل هداية ، و (الْمَرْعى) : النبات ، وهو أصل في قيام المعاش إذ هو غذاء الأنعام ومنه ما ينتفع به الناس في ذواتهم ، و «الغثاء» ما يبس وجف وتحطم من النبات ، وهو الذي يحمله السيل ، وبه يشبه الناس الذين لا قدر لهم. و «الأحوى» : قيل هو الأخضر الذي عليه سواد من شدة الخضرة والغضارة ، وقيل هو الأسود سوادا يضرب إلى الخضرة ومنه قول ذي الرمة : [البسيط]
لمياء في شفتيها حوّة لعس |
|
وفي اللثات وفي أنيابها شنب |
قال قتادة : تقدير هذه الآية (أَخْرَجَ الْمَرْعى) ، (أَحْوى) أسود من خضرته ونضارته ، (فَجَعَلَهُ غُثاءً) عند يبسه ، ف (أَحْوى) حال ، وقال ابن عباس : المعنى (فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) أي أسود ، لأن الغثاء إذا قدم وأصابته الأمطار اسود وتعفن فصار (أَحْوى) بهذه الصفة. وقوله تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) ، قال الحسن وقتادة ومالك بن أنس : هذه الآية في معنى قوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) [القيامة : ١٦] الآية ، وعد الله أن يقرئه وأخبره أنه لا ينسى نسيانا لا يكون بعده ذكر ، فتذهب الآية ، وذلك أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يحرك شفتيه مبادرة خوفا منه أن ينسى ، وفي هذا التأويل آية النبي صلىاللهعليهوسلم في أنه أمي ، وحفظ الله تعالى عليه الوحي ، وأمنه من نسيانه. وقال آخرون : ليست هذه الآية في معنى تلك ، وإنما هذه وعد بإقرار الشرع والسور ، وأمره أن لا ينسى على معنى التثبيت والتأكيد ، وقد علم أن ترك النسيان ليس في قدرته ، فقد نهي عن إغفال التعاهد ، وأثبت الياء في «تنسى» لتعديل رؤوس الآي ، وقال الجنيد : معنى (فَلا تَنْسى) ، لا تترك العمل بما تضمن من أمر ونهي ، وقوله تعالى : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) ، قال الحسن وقتادة وغيره مما قضى الله تعالى بنسخه ، وأن ترفع تلاوته وحكمه. وقال الفراء وجماعة من أهل المعاني : هو استثناء صلة في الكلام على سنة الله تعالى في الاستثناء ، وليس ثم شيء أبيح نسيانه ، وقال ابن عباس : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أن ينسيكه لتسن به على نحو قوله عليهالسلام : «إني لأنسى أو أنسّى لأسنّ» ، وقال بعض المتأولين : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أن يغلبك النسيان عليه ثم يذكرك به بعد ، ومن هذا قول النبي صلىاللهعليهوسلم حين سمع قراءة عباد بن بشر يرحمهالله : «لقد أذكرني كذا في سورة كذا وكذا».
قال القاضي أبو محمد : ونسيان النبي صلىاللهعليهوسلم ممتنع فيما أمر بتبليغه ، إذ هو معصوم فإذا بلغه ووعي عنه ، فالنسيان جائز على أن يتذكر بعد ذلك وعلى أن يسنّ ، أو على النسخ ، ثم أخبر تعالى (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ) من الأشياء ، (وَما يَخْفى) منها ، وذلك لإحاطته بكل شيء علما ، وبهذا يصح الخبر بأنه لا ينسى شيئا إلا ذكره الله تعالى به. وقوله تعالى : (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) معناه : نذهب بك نحو الأمور المستحسنة في دنياك وأخراك من النصر والظفر وعلو الرسالة والمنزلة يوم القيامة ، والرفعة في الجنة ، ثم