وتم خبر كان ، ثم ابتدأ (مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) ف (ما) : نافية. و (قَلِيلاً) وقف حسن.
وقال بعض النحاة : (ما) زائدة ، و (قَلِيلاً) مفعول مقدم ب (يَهْجَعُونَ). وقال جمهور النحويين (ما) مصدرية و (قَلِيلاً) خبر «كان» ، والمعنى كانوا قليلا من الليل هجوعهم. والهجوع مرتفع ب «قليل» على أنه فاعل ، وعلى هذا الإعراب يجيء قول الحسن وغيره ، وهو الظاهر عندي أن المراد كان هجوعهم من الليل قليلا. وفسر ابن عمر والضحاك (يَسْتَغْفِرُونَ) ب «يصلون». وقال الحسن معناه : يدعون في طلب المغفرة ، و «الأسحار» مظنة الاستغفار. ويروى أن أبواب الجنة تفتح سحر كل يوم. وفي قصة يعقوب عليهالسلام في قوله : (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) [يوسف : ٩٨] قال أخر الاستغفار لهم إلى السحر. قال ابن زيد في كتاب الطبري : السحر : السدس الآخر من الليل.
وقوله تعالى : (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌ) الصحيح أنها محكمة ، وأن هذا الحق هو على وجه الندب ، لا على وجه الفرض ، و : (مَعْلُومٌ) يراد به متعارف ، وكذلك قيام الليل الذي مدح به ليس من الفرائض ، وأكثر ما تقع الفريضة بفعل المندوبات ، وقال منذر بن سعيد : هي الزكاة المفروضة وهذا ضعيف ، لأن السورة مكية وفرض الزكاة بالمدينة. وقال قوم من المتأولين : كان هذا ثم نسخ بالزكاة ، وهذا غير قوي وما شرع الله عزوجل بمكة قبل الهجرة شيئا من أخذ الأموال.
واختلف الناس في (الْمَحْرُومِ) اختلافا ، هو عندي تخليط من المتأخرين ، إذ المعنى واحد ، وإنما عبر علماء السلف في ذلك بعبارات على جهة المثالات فجعلها المتأخرون أقوالا وحصرها مكي ثمانية. و : (الْمَحْرُومِ) هو الذي تبعد عنه ممكنات الرزق بعد قربها منه فيناله حرمان وفاقة ، وهو مع ذلك لا يسأل ، فهذا هو الذي له حق في أموال الأغنياء كما للسائل حق ، قال الشعبي : أعياني أن أعلم ما (الْمَحْرُومِ)؟ وقال ابن عباس : (الْمَحْرُومِ) : المعارف الذي ليس له في الإسلام سهم مال ، فهو ذو الحرفة المحدود. وقال أبو قلابة : جاء سيل باليمامة فذهب بمال رجل ، فقال رجل من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم : هذا (الْمَحْرُومِ). وقال زيد بن أسلم : هو الذي أجيحت ثمرته من المحرومين ، والمعنى الجامع لهذه الأقوال أنه الذي لا مال له لحرمان أصابه ، وإلا فالذي أجيحت ثمرته وله مال كثير غيرها فليس في هذه الآية بإجماع ، وبعد هذا مقدر من الكلام تقديره : فكونوا مثلهم أيها الناس وعلى طريقتهم فإن النظر المؤدي إلى ذلك متوجه ، ف (فِي الْأَرْضِ آياتٌ) لمن اعتبر وأيقن.
قال القاضي أبو محمد : وهذه إشارة إلى لطائف الحكمة وعجائب الخلقة التي في الأرضين والجبال والمعادن والعيون وغير ذلك. وقرأ قتادة : «آية» على الإفراد.
وقوله تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ) إحالة على النظر في شخص الإنسان فإنه أكثر المخلوقات التي لدينا عبرة لما جعل الله فيه مع كونه من تراب من لطائف الحواس ومن أمر النفس وجهاتها ونطقها ، واتصال هذا الجزء منها بالعقل ، ومن هيئة الأعضاء واستعدادها لتنفع أو تجمل أو تعين. قال ابن زيد : إنما القلب مضغة في جوف ابن آدم جعل الله فيه العقل ، أفيدري أحد ما ذاك العقل؟ وما صفته؟ وكيف هو؟ وقال الرماني : النفس خاصة : الشيء التي لو بطل ما سواها مما ليست مضمنة به لم تبطل ، وهذا تعمق لا أحمده. وقوله : (أَفَلا تُبْصِرُونَ) توقيف وتوبيخ.