مقت الكفار أنفسهم نادتهم ملائكة العذاب على جهة التوبيخ ، فيقولون لهم : مقت الله إياكم في الدنيا إذ كنتم تدعون إلى الإيمان فتكفرون (أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) اليوم ، هذا هو معنى الآية ، وبه فسر مجاهد وقتادة وابن زيد. وأضاف المصدر إلى الفاعل في قوله : (لَمَقْتُ اللهِ) والمفعول محذوف لأن القول يقتضيه. واللام في قوله : (لَمَقْتُ) يحتمل أن تكون لام ابتداء ، ويحتمل أن تكون لام القسم ، وهذا أصوب. و : (أَكْبَرُ) خبر الابتداء ، والعامل في : (إِذْ) فعل مضمر تقديره : مقتكم إذ ، وقدره قوم اذكروا ، وذلك ضعيف يحل ربط الكلام ، اللهم إلا أن يقدر أن مقت الله لهم هو في الآخرة ، وأنه أكبر من مقتهم أنفسهم ، فيصح أن يقدر المضمر اذكروا ، ولا يجوز أن يعمل فيه قوله : (لَمَقْتُ) لأن خبر الابتداء قد حال بين المقت و (إِذْ) ، وهي في صلته ، ولا يجوز ذلك.
واختلف المفسرون في معنى قولهم : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) فقال ابن عباس وقتادة والضحاك وأبو مالك : أرادوا موته كونهم ماء في الأصلاب ثم أحياهم في الدنيا ثم أماتهم الموت ثم أحياهم يوم القيامة ، قالوا وهي كالتي في سورة البقرة : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [البقرة : ٢٨]. وقال ابن زيد : أرادوا أنه أحياهم نسما عند أخذ العهد عليهم وقت أخذهم من صلب آدم ثم أماتهم بعد ذلك ثم أحياهم في الدنيا ثم أماتهم ثم أحياهم ، وهذا قول ضعيف ، لأن الإحياء فيه ثلاث مرات .. وقال السدي : أرادوا أنه أحياهم في الدنيا ثم أماتهم تم أحياهم في القبر وقت سؤال منكر ونكير ، ثم أماتهم فيه ثم أحياهم في الحشر ، وهذا أيضا يدخله الاعتراض الذي في القول قبله ، والأول أثبت الأقوال. وقال محمد بن كعب القرظي : أرادوا أن الكافر في الدنيا هو حي الجسد ميت القلب فكأن حالهم في الدنيا جمعت إحياء وإماتة ، ثم أماتهم حقيقة ثم أحياهم بالبعث.
والخلاف في هذه الآية مقول كله في آية سورة البقرة ، وهذه الآية يظهر منها أن معناها منقطع من معنى قوله تعالى : (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) وليس الأمر كذلك ، بل الآيتان متصلتا المعنى ، وذلك أن كفرهم في الدنيا كان أيضا بإنكارهم البعث واعتقادهم أنه لا حشر ولا عذاب ، ومقتهم أنفسهم إنما عظمه ، لأن هذا المعتقد كذبهم ، فلما تقرر مقتهم لأنفسهم ورأوا خزيا طويلا عريضا رجعوا إلى المعنى الذي كان كفرهم به وهو البعث وخرج الوجود مقترنا بعذابهم فأقروا به على أتم وجوهه ، أي قد كنا كفرنا بإنكارنا البعث ونحن اليوم نقر أنك أحييتنا اثنتين وأمتنا اثنتين ، كأنهم قصدوا تعظيم قدرته تعالى واسترضاءه بذلك ، ثم قالوا عقب هذا الإقرار طمعا منهم ، فها نحن معترفون بذنوبنا (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ)؟ وهذا كما تكلف إنسانا أن يقر لك بحق وهو ينكرك ، فإذا رأى الغلبة وضرع أقر بذلك الأمر متمما أوفى مما كنت تطلب به أولا ، وفيما بعد قولهم : (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر ، تقديره : لا إسعاف لطلبتكم أو نحو هذا من الرد والزجر.
وقوله تعالى : (ذلِكُمْ) يحتمل أن يكون إشارة إلى العذاب الذي هم فيه ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى مقت الله إياهم ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى مقتهم أنفسهم ، ويحتمل أن تكون إشارة إلى المنع والزجر والإهانة التي قلنا إنها مقدرة محذوفة الذكر لدلالة ظاهر القول عليها ، ويحتمل أن تكون المخاطبة ب (ذلِكُمْ) لمعاصري محمد صلىاللهعليهوسلم فى الدنيا ، ويحتمل أن تكون في الآخرة للكفار عامة.