قال القاضي أبو
محمد : ولا طريق إلى هذا الاختلاف ولا إلى الترجيح إلا النظر في شواهد القرآن
والنظر في كلام العرب وأشعارها ، فمن حجة الأولين قول الله عزوجل (أَمَّا
السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) [الكهف : ٧٩]
واعترض هذا الشاهد بوجوه منها ، أن يكون سماهم «مساكين» بالإضافة إلى الغاصب وإن
كانوا أغنياء على جهة الشفقة كما تقول في جماعة تظلم مساكين لا حيلة لهم وربما
كانوا مياسير ومنها : أنه قرىء «لمساكين» بشد السين بمعنى : دباغين يعملون المسوك
قاله النقاش وغيره ومنها : أن تكون إضافتها إليهم ليست بإضافة ملك بل كانوا عاملين
بها فهي كما تقول : سرج الفرس ، ومن حجة الآخرين قول الراعي : [البسيط]
أما الفقير الذي
كانت حلوبته
|
|
وفق العيال فلم
يترك له سبد
|
وقد اعترض هذا
الشاهد بأنه إنما سماه فقيرا بعد أن صار لا حلوبة له ، وإنما ذكر الحلوبة بأنها
كانت ، وهذا اعتراض يرده معنى القصيدة ومقصد الشاعر بأنه إنما يصف سعاية أتت على
مال الحي بأجمعه ، فقال : أما الفقير فاستؤصل ماله فكيف بالغني مع هذه الحال ،
وذهب من يقول إن المسكين أبلغ فاقة إلى أنه مشتق من السكون ، وأن الفقير مشتق من
فقار الظهر كأنه أصيب فقارة فيه لا محالة حركة ، وذهب من يقول إن الفقير أبلغ فاقة
: إلى أنه مشتق من فقرت البئر إذا نزعت جميع ما فيها ، وأن المسكين من السكن.
قال القاضي أبو
محمد : ومع هذا الاختلاف فإنهما صنفان يعمهما الإقلال والفاقة ، فينبغي أن يبحث
على الوجه الذي من أجله جعلهما الله اثنين ، والمعنى فيهما واحد ، وقد اضطرب الناس
في هذا ، فقال الضحاك بن مزاحم : «الفقراء» هم من المهاجرين (وَالْمَساكِينِ) من لم يهاجر ، وقال النخعي نحوه ، قال سفيان : يعني لا
يعطى فقراء الأعراب منها شيئا.
قال القاضي أبو
محمد : «والمسكين السائل» يعطى في المدينة وغيرها ، وهذا القول هو حكاية الحال وقت
نزول الآية ، وأما منذ زالت الهجرة فاستوى الناس ، وتعطى الزكاة لكل متصف بفقر ،
وقال عكرمة : «الفقراء» من المسلمين ، (وَالْمَساكِينِ) من أهل الذمة ، ولا تقولوا لفقراء المسلمين مساكين ، وقال
الشافعي في كتاب ابن المنذر : «الفقير» من لا مال له ولا حرفة سائلا كان أو متعففا
، «والمسكين» الذي له حرفة أو مال ولكن لا يغنيه ذلك سائلا كان أو غير سائل ، وقال
قتادة بن دعامة : الفقير الزمن المحتاج ، والمسكين الصحيح المحتاج ، وقال ابن عباس
والحسن ومجاهد والزهري وابن زيد وجابر بن زيد ومحمد بن مسلمة : «المساكين» الذين
يسعون ويسألون ، و «الفقراء» هم الذين يتصاونون ، وهذا القول الأخير إذا لخص وحرر
أحسن ما يقال في هذا ، وتحريره : أن الفقير هو الذي لا مال له إلا أنه لم يذل ولا
بذل وجهه ، وذلك إما لتعفف مفرط وإما لبلغة تكون له كالحلوبة وما أشبهها ،
والمسكين هو الذي يقترن بفقره تذلل وخضوع وسؤال ، فهذه هي المسكنة ، فعلى هذا كل
مسكين فقير وليس كل فقير مسكينا ، ويقوي هذا أن الله تعالى قد وصف بني إسرائيل
بالمسكنة وقرنها بالذلة مع غناهم ، وإذا تأملت ما قلناه بان أنهما صنفان موجودان
في المسلمين ، ويقوي هذا قوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ
الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ
يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) [البقرة : ٢٧٣] وقيل لأعرابي : أفقير أنت؟ فقال : إني
والله مسكين ،