قال القاضي أبو محمد : فكأنه قال : ولقد آتيناك عظيما خطيرا فلا تنظر إلى غير ذلك من أمور الدنيا وزينتها التي متعنا بها أنواعا من هؤلاء الكفرة ، ومن هذا المعنى قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «من أوتي القرآن فرأى أن أحدا أعطي أفضل مما أعطي فقد عظم صغيرا ، وصغر عظيما» وكأن «مد العين» يقترن به تمنّ ، ولذلك عبر عن الميل إلى زينة الدنيا ب «مد العين» و «الأزواج» هنا الأنواع والأشباه ، وقوله (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي لا تتأسف لكفرهم وهلاكهم ، واصرف وجه تحفيك إلى من آمن بك (وَاخْفِضْ) لهم (جَناحَكَ) وهذه استعارة بمعنى لين جناحك ووطئ أكنافك. «والجناح» الجانب والجنب ، ومنه (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) [طه : ٢٢] فهو أمر بالميل إليهم ، والجنوح الميل ، (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) ، أي تمسك بهذا القدر العظيم الذي وهبناك ، والكاف من قوله (كَما) متعلقة بفعل محذوف تقديره ، وقل إني أنا النذير المبين عذابا كالذي أنزلنا على المقتسمين ، فالكاف اسم في موضع نصب.
قال القاضي أبو محمد : هذا قول المفسرين ، وهو عندي غير صحيح لأن (كَما) ليس مما يقوله محمد عليهالسلام بل هو من قول الله تعالى له فينفصل الكلام ، وإنما يترتب هذا القول بأن نقدر أن الله تعالى قال له تنذر عذابا كما ، والذي أقول في هذا المعنى : وقل أنا النذير كما قال قبلك رسلنا وأنزلنا عليهم كما أنزلنا عليك ، ويحتمل أن يكون المعنى وقل أنا النذير كما قد أنزلنا قبل في الكتب أنك ستأتي نذيرا ، وهذا على أن (الْمُقْتَسِمِينَ) أهل الكتاب ، واختلف الناس في (الْمُقْتَسِمِينَ) من هم؟ فقال ابن زيد : هم قوم صالح الذين اقتسموا السيئات فالمقتسمون على هذا من القسم.
قال القاضي أبو محمد : ويقلق هذا التأويل مع قوله (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) ، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير : «المقتسمون» هم أهل الكتاب الذين فرقوا دينهم ، وجعلوا كتاب الله أعضاء آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، وقال نحوه مجاهد ، وقالت فرقة : «المقتسمون» هم من كفار قريش الذين اقتسموا الطرق وقت الموسم ليعرفوا الناس بحال محمد عليهالسلام ، وجعلوا القرآن سحرا وشعرا وكهانة فعضهوه بهذا وعضوه أعضاء بهذا التقسيم ، وقال عكرمة : «المقتسمون» هم قوم كانوا يستهزئون بسور القرآن فيقول الرجل منهم هذه السورة لي ، ويقول الآخر وهذه لي ، وقوله (عِضِينَ) مفعول ثان وجعل بمعنى صير ، أي بألسنتهم ودعواهم ، وأظهر ما فيه أنه جمع عضة ، وهي الفرقة من الشيء والجماعة من الناس كثبة وثبين وعزة وعزين ، وأصلها عضهة وثبوة فالياء والنون عوض من المحذوف ، كما قالوا سنة وسنون ، إذ أصلها سنهة ، وقال ابن عباس وغيره : (عِضِينَ) مأخوذ من الأعضاء أي عضوة فجعلوه أعضاء مقسما ، ومن ذلك قول الراجز :
وليس دين الله بالمعضى
وهذا هو اختيار أبي عبيدة ، وقال قتادة : (عِضِينَ) مأخوذ من العضة وهو السب المفحش ، فقريش عضهوا كتاب الله بقولهم : هو شعر ، هو سحر ، هو كهانة ، وهذا هو اختيار الكسائي ، وقالت فرقة : (عِضِينَ) جمع عضة وهي اسم للسحر خاصة بلغة قريش ، ومنه قول الراجز :
للماء من عضتهن زمزمة.
وقال هذا قول عكرمة مولى ابن عباس ، وقال العضة السحر ، وهم يقولون للساحرة العاضهة ، وفي الحديث «لعن الله العاضهة والمستعضهة» ، وهذا هو اختيار الفراء.