حتى نوجده ، لأن بعثة الأنبياء إلى قوم مخصوصين إنما هو في معنى القتال والشدة ، وأما من جهة بذل النصيحة وقبول من آمن فالناس أجمع في ذلك سواء ؛ ونوح قد لبث ألف سنة إلا خمسين عاما يدعو إلى الله ، فغير ممكن أن لم تبلغ نبوءته للقريب والبعيد ، ويجيء تعذيب الكل بالغرق بعد بعثة رسول وهو نوحصلىاللهعليهوسلم.
ولا يعارضنا مع هذه التأويلات شيء من الحديث ولا الآيات ، والله الموفق للصواب.
وقوله تعالى : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ) عطف على قوله : (فَلا تَبْتَئِسْ) و (الْفُلْكَ) : السفينة ، وجمعها أيضا فلك ، وليس هو لفظا للواحد والجمع وإنما هو فعل وجمع على فعل ومن حيث جاز أن يجمع فعل على فعل كأسد وأسد ، جاز أن يجمع فعل على فعل ، فظاهر لفظ الجمع فيها كظاهر لفظ واحد وليس به ، تدل على ذلك درجة التثنية التي بينهما لأنك تقول : فلك وفلكان وفلك ، فالحركة في الجمع نظير ضمة الصاد إذا ناديت «يا منصور» ، تريد «يا منصور» ، فرخمت على لغة من يقول : يا حار بالضم ، فإن ضمة الصاد هي في اللفظ كضمة الأصل ، وليست بها في الحكم.
وقوله : (بِأَعْيُنِنا) يمكن ـ فيما يتأول ـ أن يريد به بمرأى منا وتحت إدراك ، فتكون عبارة عن الإدراك والرعاية والحفظ ، ويكون جمع الأعين للعظمة لا للتكثير كما قال تعالى : (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) [المرسلات : ٢٣] فرجع معنى الأعين في هذه وفي غيرها إلى معنى عين في قوله : (لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) [طه : ٣٩] ، وذلك كله عبارة عن الإدراك وإحاطته بالمدركات ، وهو تعالى منزه عن الحواس والتشبيه والتكييف لا رب غيره. ويحتمل قوله (بِأَعْيُنِنا) أي بملائكتنا الذين جعلناهم عيونا على مواضع حفظك ومعونتك ، فيكون الجمع على هذا للتكثير.
وقرأ طلحة بن مصرف «بأعينا» مدغما.
وقوله (وَوَحْيِنا) معناه : وتعليمنا لك صورة العمل بالوحي ، وروي في ذلك أن نوحا عليهالسلام لما جهل كيفية صنع السفينة أوحى الله إليه : أن اصنعها على مثال جؤجؤ الطير ، إلى غير ذلك مما عمله نوح من عملها ، فقد روي أيضا أنها كانت مربعة الشكل طويلة في السماء ، ضيقة الأعلى ، وأن الغرض منها إنما كان الحفظ لا سرعة الجري ، والحديث الذي تضمن أنها كجؤجؤ الطائر أصح ومعناه أظهر : لأنها لو كانت مربعة لم تكن فلكا بل كانت وعاء فقط ، وقد وصفها الله تعالى بالجري في البحر ، وفي الحديث : كان راز سفينة نوح عليهالسلام جبريل عليهالسلام والراز : القيم بعمل السفن. ومن فسر قوله (وَوَحْيِنا) أي بأمرنا لك ، فذلك ضعيف لأن قوله : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ) مغن عن ذلك. و (الَّذِينَ ظَلَمُوا) هم قومه الذين أعرضوا عن الهداية حتى عمتهم النقمة ، قال ابن جريج : وهذه الآية تقدم الله فيها إلى نوح أن لا يشفع فيهم.
قوله عزوجل :
(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ