المنعة بحال من يفلت أو يعتصم بمنج ، وإنما في قبضة القدرة وتحت ذلة المتملك ، وليس نصحي بنافع ولا إرادتي الخير لكم مغنية إذا كان الله تعالى قد أراد بكم الإغواء والإضلال والإهلاك. والشرط الثاني اعتراض بين الكلام ، وفيه بلاغة في اقتران الإرادتين. وأن إرادة البشر غير مغنية ، وتعلق هذا الشرط هو ب (نُصْحِي) ، وتعلق الآخر هو ب «لا ينفع». والنصح هو سد ثلم الرأي للمنصوح وترقيعه ، وهو مأخوذ من نصح الثوب إذا خاطه ، والمنصح الإبرة ، والمخيط يقال له منصح ونصاح : وقالت فرقة معنى قوله (يُغْوِيَكُمْ) : يضلكم ، من قولهم غوى الرجل يغوى ، ومنه قول الشاعر [المرقش] : [الطويل]
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره |
|
ومن يغو لا يعدم على الغي لائما |
وإذا كان هذا معنى اللفظة ، ففي الآية حجة على المعتزلة القائلين إن الضلال إنما هو من العبد. وقالت فرقة معنى قوله : (يُغْوِيَكُمْ) : يهلككم ، والغوى المرض والهلاك ؛ وفي لغة طيّىء : أصبح فلان غاويا ، أي مريضا ، والغوى بشم الفصيل ، قال يعقوب في الإصلاح. وقيل : فقده اللبن حتى يموت جوعا ، قاله الفراء وحكاه الطبري. يقال غوى يغوى ، وحكى الزهراوي أنه الذي قطع عنه اللبن حتى كاد يهلك ولما يهلك بعد ، فإذا كان هذا معنى اللفظة زال موضع النظر بين أهل السنة والمعتزلة ، وبقي الاحتجاج عليهم بما هو أبين من هذه الآية كقوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) [الأنعام : ١٢٥] ونحوها.
قال القاضي أبو محمد : ولكني أعتقد أن للمعتزلة تعلقا وحجة بالغة بهذا التأويل ، فرد عليه وأفرط حتى أنكر أن يكون الغوى بمعنى الهلاك موجودا في لسان العرب.
وقوله : (هُوَ رَبُّكُمْ) ، تنبيه على المعرفة بالخالق. وقوله : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) إخبار في ضمنه وعيد وتخويف ، وقوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ...) الآية ، قال الطبري وغيره من المتأولين والمؤلفين في التفسير : إن هذه الآية اعترضت في قصة نوح وهي شأن محمد صلىاللهعليهوسلم مع كفار قريش ، وذلك أنهم قالوا : افتري القرآن وافتري هذه القصة على نوح ، فنزلت الآية في ذلك.
قال القاضي أبو محمد : وهذا لو صح بسند وجب الوقوف عنده ، وإلا فهو يحتمل أن يكون في شأن نوح عليهالسلام ، ويبقى اتساق الآية مطردا ، ويكون الضمير في قوله (افْتَراهُ) عائدا إلى العذاب الذي توعدهم به أو على جميع أخباره ، وأوقع الافتراء على العذاب من حيث يقع على الإخبار به. والمعنى : أم يقول هؤلاء الكفرة افترى نوح هذا التوعد بالعذاب وأراد الإرهاب علينا بذلك ؛ ثم يطرد باقي الآية على هذا.
و (أَمْ) هي التي بمعنى بل يقولون ، و «الإجرام» مصدر أجرم يجرم إذا جنى ، يقال : جرم وأجرم بمعنى ، ومن ذلك قول الشاعر :
طريد عشيرة ووهين ذنب |
|
بما جرمت يدي وجنى لساني |
قوله عزوجل :
(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)