قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)(٥٨)
هذه آية خوطب بها جميع العالم ، و «الموعظة» : القرآن لأن الوعظ إنما هو بقول يأمر بالمعروف ويزجر ويرقق ويوعد ويعد ، وهذه صفة الكتاب العزيز ، وقوله (مِنْ رَبِّكُمْ) يريد لم يختلقها محمد صلىاللهعليهوسلم بل هي من عند الله ، وما (فِي الصُّدُورِ) يريد به الجهل والعتو عن النظر في آيات الله ونحو هذا مما يدفع الإيمان ، وجعله موعظة بحسب الناس أجمع ، وجعله (هُدىً وَرَحْمَةٌ) بحسب المؤمنين فقط ، وهذا تفسير صحيح المعنى إذا تؤمل بان وجهه ، وقوله سبحانه (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) ، الباء متعلقة بمحذوف استغني عن ذكره يدل عليه قوله : (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) ، قال بعض المتأولين وهو هلال بن يساف وقتادة والحسن وابن عباس : «الفضل» : الإسلام ، و «الرحمة» : القرآن ، وقال أبو سعيد الخدري : «الفضل» : القرآن ، و «الرحمة» أن جعلهم من أهله ، وقال زيد بن أسلم والضحاك «الفضل» : القرآن ، و «الرحمة» : الإسلام ، وقالت فرقة : «الفضل» : محمد صلىاللهعليهوسلم ، و «الرحمة» : القرآن.
قال القاضي أبو محمد : ولا وجه عندي لشيء من هذا التخصيص إلا أن يستند منه شيء إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، وإنما الذي يقتضيه اللفظ ويلزم منه ، أن «الفضل» هو هداية الله تعالى إلى دينه والتوفيق إلى اتباع الشرع ، و «الرحمة» هي عفوه وسكنى جنته التي جعلها جزاء على التشرع بالإسلام والإيمان به ، ومعنى الآية : قل يا محمد لجميع الناس (بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) فليقع الفرح منكم ، لا بأمور الدنيا وما جمع من حطامها ، فالمؤمنون يقال لهم : فلتفرحوا ، وهم متلبسون بعلة الفرح وسببه ، ومحصلون لفضل الله منتظرون الرحمة ، والكافرون يقال لهم : (بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) فلتفرحوا ، على معنى أن لو اتفق لكم أو لو سعدتم بالهداية إلى تحصيل ذلك ، وقرأ أبي بن كعب وابن القعقاع وابن عامر والحسن على ما زعم هارون ورويت عن النبي صلىاللهعليهوسلم «فلتفرحوا» ، و «تجمعون» بالتاء فيهما على المخاطبة ، وهي قراءة جماعة من السلف كبيرة ، وعن أكثرهم خلاف ، وقرأ السبعة سوى ابن عامر وأهل المدينة والأعرج ومجاهد وابن أبي إسحاق وقتادة وطلحة والأعمش : بالياء فيهما على ذكر الغائب ، ورويت عن الحسن بالتاء من فوق فيهما ، وقرأ أبو التياح وأبو جعفر وقتادة : بخلاف عنهم وابن عامر بالياء في الأولى وبالتاء في الآخرة ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وجماعة من السلف ورويت عن النبي صلىاللهعليهوسلم بالياء في الأولى وفي الآخرة ، ورويت عن أبي التياح ، وإذا تأملت وجوه ذلك بانت على مهيع الفصيح من كلام العرب ولذلك كثر الخلاف من كل قارئ ، وفي مصحف أبي بن كعب ، «فبذلك فافرحوا» ، وأما من قرأ «فلتفرحوا» ، فأدخل اللام في أمر المخاطب فذلك على لغة قليلة ، حكى ذلك أبو علي في الحجة ، وقال أبو حاتم وغيره : الأصل في كل أمر إدخال اللام إذا كان النهي بحرف فكذلك الأمر ، وإذا كان أمرا لغائب بلام ، قال أبو الفتح : إلا أن العرب رفضت إدخال اللام في أمر المخاطب لكثرة ترداده ، وقرأ أبو الفتوح والحسن : بكسر اللام من «فلتفرحوا» ، فإن قيل : كيف أمر الله بالفرح في هذه الآية؟ وقد ورد ذمه في قوله (لَفَرِحٌ فَخُورٌ) [هود : ١٠] ، وفي قوله (لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) [القصص : ٧٦] قيل إن الفرح إذا ورد مقيدا في خير فليس بمذموم وكذلك هو في هذه الآية ، وإذا ورد مقيدا