القبور ، للثواب ، والعقاب ، إعلاما بقسم ، والمقسم به تقديره وهو : أو وحقه ، أو وعظمته ، (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) والجمع هنا بمعنى الحشر ، فلذلك حسنت بعده (إِلى) ، أي : إليه السوق والحشر ، و (الْقِيامَةِ) : أصلها القيام ، ولما كان قيام الحشر من أذل الحال وأضعفها إلى أشد الأهوال وأعظمها لحقته هاء المبالغة و (لا رَيْبَ فِيهِ) تبرئة هي وما بعدها بمثابة الابتداء تطلب الخبر ، ومعناه : لا ريب فيه في نفسه وحقيقة أمره ، وإن ارتاب فيه الكفرة فغير ضائر ، (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً)؟ ظاهره الاستفهام ومعناه تقرير الخبر ، تقديره : لا أحد أصدق من الله تعالى ، لأن دخول الكذب في حديث البشر إنما علته الخوف والرجاء أو سوء السجية ، وهذه منفية في حق الله تعالى وتقدست أسماؤه ، والصدق في حقيقته أن يكون ما يجري على لسان المخبر موافقا لما في قلبه ، وللأمر المخبر عنه في وجوده ، و (حَدِيثاً) نصب على التمييز.
وقوله : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ) الآية. الخطاب للمؤمنين ، وهذا ظاهره استفهام ، والمقصد منه التوبيخ ، واختلف المتأولون فيمن المراد ب (الْمُنافِقِينَ)؟ فقال ابن عباس : هم قوم كانوا بمكة فكتبوا إلى أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم إلى المدينة ، أنهم قد آمنوا وتركوا الهجرة ، وأقاموا بين أظهر الكفار ، ثم سافر قوم منهم إلى الشام فأعطتهم قريش بضاعات وقالوا لهم : إنكم لا تخافون أصحاب محمد ، لأنكم تخدعونهم بإظهار الإيمان لهم ، فاتصل خبرهم بالمدينة ، فاختلف المؤمنون فيهم ، فقالت طائفة : نخرج إلى أعداء الله المنافقين ، وقالت طائفة : بل هم مؤمنون لا سبيل لنا إليهم ، فنزلت الآية ، وقال مجاهد : بل نزلت في قوم جاؤوا إلى المدينة من مكة ، فأظهروا الإسلام ، ثم قالوا : لنا بضاعات بمكة فانصرفوا إليها وأبطنوا الكفر ، فاختلف فيهم أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم.
قال القاضي أبو محمد رحمهالله : وهذان القولان يعضدهما ما في آخر الآية من قوله تعالى (حَتَّى يُهاجِرُوا) [النساء : ٨٩] ، وقال زيد بن ثابت : نزلت في المنافقين الذين رجعوا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوم أحد ، عبد الله بن أبيّ وأصحابه ، لأن أصحاب النبي عليهالسلام اختلفوا فيهم ، وقال السدي : بل نزلت في قوم منافقين كانوا بالمدينة فطلبوا الخروج عنها نفاقا وكفرا ، وقالوا : إنّا اجتويناها ، وقال ابن زيد : إنما نزلت في المنافقين الذين تكلموا في حديث الإفك ، لأن الصحابة اختلفوا فيهم.
قال القاضي أبو محمد رحمهالله : الاختلاف في هذه النازلة كان بين أسيد بن حضير وسعد بن عبادة ، حسبما وقع في البخاري ، وكان لكل واحد أتباع من المؤمنين على قوله ، وكل من قال في هذه الآية : إنها فيمن كان بالمدينة يرد عليه قوله : (حَتَّى يُهاجِرُوا) [النساء : ٨٩] لكنهم يخرجون المهاجرة إلى هجر ما نهى الله عنه ، وترك الخلاف والنفاق ، كما قال عليهالسلام ، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ، و (فِئَتَيْنِ) معناه فرقتين ، ونصبهما على الحال كما تقول : ما لك قائما ، هذا مذهب البصريين ، وقال الكوفيون : نصبه بما يتضمنه ما لكم من الفعل ، والتقدير ما لكم كنتم (فِئَتَيْنِ) ، أو صرتم ، وهذا الفعل المقدر ينصب عندهم النكرة والمعرفة ، كما نقول ما لك الشاتم لزيد ، وخطأ هذا القول الزجّاج ، لأن المعرفة لا تكون حالا ، و (أَرْكَسَهُمْ) معناه رجعهم في كفرهم وضلالهم ، «والركس» الرجيع ، ومنه حديث النبي عليهالسلام في الاستنجاء ، «فأخذ الحجرين وألقى الروثة ، وقال إنها ركس» ومنه قول أمية بن أبي الصلت : [البسيط]