وقال مجاهد وغيره : المراد بهذه الآية من تقدم ذكره ، ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت ، وفيهم نزلت ، ورجح الطبري هذا ، لأنه أشبه بنسق الآية وقالت طائفة : نزلت في رجل خاصم الزبير بن العوام في السقي بماء الحرة ، فقال لهما رسول الله صلىاللهعليهوسلم : اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك ، فغضب ذلك الرجل وقال إن كان ابن عمتك؟ فغضب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، واستوعب للزبير حقه ، فقال : احبس يا زبير الماء حتى يبلغ الجدر ، ثم أرسل الماء ، فنزلت الآية ، واختلف أهل هذا القول في الرجل ، فقال قوم : هو رجل من الأنصار من أهل بدر ، وقال مكي وغيره : هو حاطب بن أبي بلتعة.
قال القاضي أبو محمد رحمهالله : والصحيح الذي وقع في البخاري أنه رجل من الأنصار ، وأن الزبير قال : فما أحسب أن هذه الآية نزلت إلا في ذلك ، وقالت طائفة : لما قتل عمر الرجل المنافق الذي لم يرض بحكم النبي صلىاللهعليهوسلم ، بلغ ذلك النبي وعظم عليه ، وقال : ما كنت أظن أن عمر يجترىء على قتل رجل مؤمن ، فنزلت الآية نافية لإيمان ذلك الرجل الراد لحكم النبي ، مقيمة عذر عمر بن الخطاب في قتله.
و (كَتَبْنا) معناه فرضنا ، و (اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) معناه ليقتل بعضكم بعضا ، وقد تقدم نظيره في البقرة ، وضم النون من (أَنِ) وكسرها جائز ، وكذلك الواو من (أَوِ اخْرُجُوا) وبضمها قرأ ابن عامر ونافع وابن كثير والكسائي ، وبكسرها قرأ حمزة وعاصم ، وكسر أبو عمرو النون وضم الواو ، و (قَلِيلٌ) رفع على البدل من الضمير في (فَعَلُوهُ) ، وقرأ ابن عامر وحده بالنصب «إلا قليلا» ، وذلك جائز أجرى النفي مجرى الإيجاب.
وسبب الآية على ما حكي : أن اليهود قالوا لما لم يرض المنافق بحكم النبي عليهالسلام : ما رأينا أسخف من هؤلاء ، يؤمنون بمحمد ويتبعونه ، ويطؤون عقبة ، ثم لا يرضون بحكمه ، ونحن قد أمرنا بقتل أنفسنا ففعلنا ، وبلغ القتل فينا سبعين ألفا فقال ثابت بن قيس : لو كتب ذلك علينا لفعلناه ، فنزلت الآية معلمة حال أولئك المنافقين ، وأنه لو كتب ذلك على الأمة لم يفعلوه ، وما كان يفعله إلا قليل مؤمنون محققون ، كثابت وغيره ، وكذلك روي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : ثابت بن قيس وعمار وابن مسعود من القليل. وشركهم في ضمير (مِنْهُمْ) لما كان المنافقون والمؤمنون مشتركين في دعوة الإسلام وظواهر الشريعة ، وقال أبو إسحاق السبيعي : لما نزلت (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ) الآية ، قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا ، فبلغ ذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : إن من أمتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي ، وذكر مكي أن الرجل هو أبو بكر الصديق ، وذكر النقاش : أنه عمر بن الخطاب ، وذكر عن أبي بكر أنه قال : لو كتب علينا لبدأت بنفسي وبأهل بيتي.
وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا) أي لو أن هؤلاء المنافقين اتعظوا وأنابوا لكان خيرا لهم ، و (تَثْبِيتاً) معناه : يقينا وتصديقا ونحو هذا ، أي يثبتهم الله ، ثم ذكر تعالى ما كان يمن به عليهم من تفضله بالأجر ، ووصفه إياه بالعظم مقتض ما لا يحصله بشر من النعيم المقيم ، و «الصراط المستقيم» : الإيمان المؤدي إلى الجنة ، وجاء ترتيب هذه الآية كذا ، ومعلوم أن الهداية قبل إعطاء الأجر ، لأن المقصد إنما هو تعديد ما كان الله ينعم به عليهم دون ترتيب ، فالمعنى : ولهديناهم قبل حتى يكونوا ممن يؤتى الأجر.