المزكى من حسنت أفعاله وزكاه الله عزوجل ، والضمير في (يُزَكُّونَ) عائد على المذكورين ممن زكى نفسه أو ممن يزكيه الله تعالى ، وغير هذين الصنفين علم أن الله تعالى لا يظلمهم من غير هذه الآية ، وقرأت طائفة «ولا تظلمون» بالتاء على الخطاب ، «والفتيل» : هو ما فتل ، فهو فعيل بمعنى مفعول ، وقال ابن عباس وعطاء ومجاهد وغيرهم : «الفتيل» : الخيط الذي في شق نواة التمرة ، وقال ابن عباس وأبو مالك والسدي : هو ما خرج من بين إصبعيك أو كفيك إذا فتلتهما ، وهذا كله يرجع إلى الكناية عن تحقير الشيء وتصغيره ، وأن الله لا يظلمه ، ولا شيء دونه في الصغر ، فكيف بما فوقه ، ونصبه على مفعول ثان ب (يُظْلَمُونَ).
وقوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ) الآية ، يبين أن تزكيتهم أنفسهم كانت بالباطل والكذب ، ويقوي أن التزكية كانت بقولهم (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] إذ الافتراء في هذه المقالة أمكن ، و (كَيْفَ) يصح أن يكون في موضع نصب ب (يَفْتَرُونَ) ، ويصح أن تكون في موضع رفع بالابتداء ، والخبر في قوله : (يَفْتَرُونَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً) خبر في مضمنه تعجب وتعجيب من الأمر ، ولذلك دخلت الباء لتدل على معنى الأمر بالتعجب ، وأن يكتفى لهم بهذا الكذب إثما ولا يطلب لهم غيره ، إذ هو موبق ومهلك و (إِثْماً) نصب على التمييز.
وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ) الآية ، ظاهرها يعم اليهود والنصارى ، ولكن أجمع المتأولون على أن المراد بها طائفة من اليهود ، والقصص يبين ذلك ، واختلف في (بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) ، فقال عكرمة وغيره : هما في هذا الموضع صنمان كانا لقريش ، وذلك أن كعب بن الأشرف وجماعة معه وردوا مكة محرضين على قتال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقالت لهم قريش : إنكم أهل الكتاب ، ومحمد صاحب كتاب ، ونحن لا نأمنكم أن تكونوا معه ، إلا أن تسجدوا لهذين الصنمين اللذين لنا ، ففعلوا ، ففي ذلك نزلت هذه الآية ، وقال ابن عباس : (بِالْجِبْتِ) هنا : حيي بن أخطب (وَالطَّاغُوتِ) : كعب بن الأشرف. فالمراد على هذه الآية القوم الذين كانوا معهما من بني إسرائيل لإيمانهم بهما واتباعهم لهما ، وقال ابن عباس : (بِالْجِبْتِ). الأصنام ، (وَالطَّاغُوتِ). القوم المترجمون عن الأصنام ، الذين يضلون الناس بتعليمهم إياهم عبادة الأصنام ، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : (بِالْجِبْتِ) السحر ، (وَالطَّاغُوتِ) : الشيطان ، وقاله مجاهد والشعبي ، وقال زيد بن أسلم : (بِالْجِبْتِ) : الساحر ، (وَالطَّاغُوتِ) : الشيطان ، وقال سعيد بن جبير ورفيع : (بِالْجِبْتِ) : الساحر ، و (الطَّاغُوتِ) : الكاهن ، وقال قتادة : (بِالْجِبْتِ) : الشيطان ، والطاغوت : الكاهن ، وقال سعيد بن جبير أيضا : الجبت : الكاهن ، والطاغوت : الشيطان ، وقال ابن سيرين : (بِالْجِبْتِ) : الكاهن ، (وَالطَّاغُوتِ) : الساحر ، وقال مجاهد في كتاب الطبري : (بِالْجِبْتِ) : كعب ابن الأشرف ، والطاغوت الشيطان كان في صورة إنسان.
قال ابن عطية : فمجموع هذا يقتضي أن (بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) هو كل ما عبد وأطيع من دون الله تعالى ، وكذلك قال مالك رحمهالله : الطاغوت كل ما عبد من دون الله تعالى ، وذكر بعض الناس أن الجبت : هو من لغة الحبشة ، وقال قطرب : (بِالْجِبْتِ) أصله الجبس ، وهو الثقيل الذي لا خير عنده ، وأما (الطَّاغُوتِ) فهو من طغى ، أصله طغووت وزنه فعلوت ، وتاؤه زائدة ، قلب فرد فلعوت ، أصله طوغوت ، تحركت الواو وفتح ما قبلها فانقلبت ألفا ، وقوله تعالى : (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) الآية سببها ، أن قريشا قالت لكعب بن الأشرف