هذين التأويلين لا يوقف في قوله : (نَصِيراً) وقالت فرقة : هي لابتداء الكلام ، وفيه إضمار تقديره قوم يحرفون ، هذا مذهب أبي علي ، ونظيره قول الشاعر [النابغة الذبياني] : [الوافر]
كأنك من جمال أبي أقيش |
|
يقعقع خلف رجليه بشنّ |
وقال الفراء وغيره : تقديره من ، ومثله قول ذي الرمة : [الطويل]
فظلّوا ومنهم دمعه سابق له |
|
وآخر يثني دمعة العين باليد |
فعلى هذا التأويل يوقف في قوله : (نَصِيراً) وقول سيبويه أصوب لأن إضمار الموصول ثقيل ، وإضمار الموصوف أسهل ، و (هادُوا) مأخوذ من هاد إذا تاب أو من يهود بن يعقوب وغيره التعريب ، أو من التهود وهو الرويد من المشي واللين في القول ، ذكر هذه كلها الخليل ، وقد تقدم شرحها وبيانها في سورة البقرة ، و «تحريف الكلم» على وجهين ، إما بتغيير اللفظ ، وقد فعلوا ذلك في الأقل ، وإما بتغيير التأويل ، وقد فعلوا ذلك في الأكثر ، وإليه ذهب الطبري ، وهذا كله في التوراة على قول الجمهور ، وقالت طائفة : هو كلم القرآن ، وقال مكي : كلام النبي محمد عليهالسلام ، فلا يكون التحريف على هذا إلا في التأويل ، وقرأ النخعي وأبو رجاء : يحرفون الكلام بالألف ، ومن جعل «من» متعلقة «بنصيرا» جعل «يحرفون» في موضع الحال ، ومن جعلها منقطعة جعل «يحرفون» صفة ، وقوله تعالى عنهم (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) عبارة عن عتوهم في كفرهم وطغيانهم فيه ، و (مُسْمَعٍ) لا يتصرف إلا من أسمع ، و (غَيْرَ مُسْمَعٍ) يتخرج فيه معنيان : أحدهما غير مأمور وغير صاغر ، كأنه قال : غير أن تسمع مأمورا بذلك ، والآخر على جهة الدعاء ، أي لا سمعت ، كما تقول : امض غير مصيب ، وغير ذلك ، فكانت اليهود إذا خاطبت النبي بغير مسمع ، أرادت في الباطن الدعاء عليه ، وأرت ظاهرا أنها تريد تعظيمه ، قال نحوه ابن عباس وغيره ، وكذلك (راعِنا) كانوا يريدون منه في نفوسهم معنى الرعونة ، وحكى مكي معنى رعاية الماشية ، ويظهرون منه معنى المراعاة ، فهذا معنى «ليّ اللسان» ، فقال الزجّاج : كانوا يريدون : اجعل سمعك لكلامنا مرعى.
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا جفاء لا يخاطب به نبي ، وفي مصحف ابن مسعود «راعونا» ومن قال : (غَيْرَ مُسْمَعٍ) غير مقبول منك فإنه لا يساعده التصريف ، وقد حكاه الطبري عن الحسن ومجاهد ، و (لَيًّا) أصله لويا ، قلبت الواو ياء وأدغمت. (وَطَعْناً فِي الدِّينِ) أي توهينا له وإظهارا للاستخفاف به
قال القاضي أبو محمد : وهذا الليّ باللسان إلى خلاف ما في القلب موجود حتى الآن في بني إسرائيل ، ويحفظ منه في عصرنا أمثلة ، إلا أنه لا يليق ذكرها بهذا الكتاب ، وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ) الآية ، المعنى : لو أنهم آمنوا وسمعوا وأطاعوا ، واختلف المتأولون في قوله ، (وَانْظُرْنا) فقال مجاهد وعكرمة وغيرهما : معناه انتظرنا ، بمعنى : أفهمنا وتمهل علينا حتى نفهم عنك ونعي قولك ، وهذا كما قال الحطيئة :
وقد نظرتكم إيناء صادرة |
|
للخمس طال بها مسحي وتنّاسي |