المهدوي وغيره أن التزيين في هذه الآية وما بعده من الأقوال هو بالوسوسة والمحادثة في النفوس.
قال القاضي أبو محمد : ويضعف هذا القول أن قوله (وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) ليس مما يلقى بالوسوسة ، وقال الجمهور في ذلك بما روي وتظاهر أن إبليس جاء كفار قريش ففي السير لابن هشام أنه جاءهم بمكة ، وفي غيرها أنه جاءهم وهم في طريقهم إلى بدر ، وقد لحقهم خوف من بني بكر وكنانة لحروب كانت بينهم ، فجاءهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وهو سيد من ساداتهم ، فقال لهم «إني جار لكم» ولن تخافوا من قومي وهم لكم أعوان على مقصدكم ولن يغلبكم أحد ، فسروا عند ذلك ومضوا لطيتهم وقال لهم أنتم تقاتلون عن دين الآباء ولن تعدموا نصرا.
فروي أنه لما التقى الجمعان كانت يده في يد الحارث بن هشام ، فلما رأى الملائكة نكص فقال له الحارث أتفر يا سراقة فلم يلو عليه ، ويروى أنه قال له ما تضمنت الآية.
وروي أن عمرو بن وهب أو الحارث بن هشام قال له أين يا سراقة؟ فلم يلو ومثل عدو الله فذهب ووقعت الهزيمة ، فتحدث أن سراقة فر بالناس ، فبلغ ذلك سراقة بن مالك ، فأتى مكة فقال لهم : والله ما علمت بشيء من أمركم حتى بلغتني هزيمتكم ولا رأيتكم ولا كنت معكم ، وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال : جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه رأيته في صورة رجل من بني مدلج ، فقال (لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ) الآية ، و (الْيَوْمَ) ظرف ، والعامل فيه معنى نفي الغلبة ، ويحتمل أن يكون العامل متعلق (لَكُمُ) وممتنع أن يعمل (غالِبَ) لأنه كان يلزم أن يكون لا غالبا ، وقوله (إِنِّي جارٌ لَكُمْ) معناه فأنتم في ذمتي وحماي ، و (تَراءَتِ) تفاعلت من الرؤية أي رأى هؤلاء هؤلاء ، وقرأ الأعمش وعيسى بن عمر «ترأت» مقصورة ، وحكى أبو حاتم عن الأعمش أنه أمال والراء مرققة ثم رجع عن ذلك ، وقوله (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) معناه رجع من حيث جاء ، وأصل النكوص في اللغة الرجوع القهقرى ، وقال زهير :
هم يضربون حبيك البيض إذ لحقوا |
|
لا ينكصون إذا ما استلحموا وحموا |
كذا أنشد الطبري ، وفي رواية الأصمعي إذا ما استلأموا وبذلك فسر الطبري هذه الآية ، وفي ذلك بعد ، وإنما رجوعه في هذه الآية مشبه بالنكوص الحقيقي ، وقال اللغويون : النكوص ، الإحجام عن الشيء ، يقال أراد أمرا ثم نكص عنه ، وقال تأبّط شرّا : [البسيط]
ليس النكوص على الأدبار مكرمة |
|
إن المكارم إقدام على الأسل |
قال القاضي أبو محمد : فليس هنا قهقرى بل هو فرار ، وقال مؤرج : نكص هي رجع بلغة سليم.
قال القاضي أبو محمد : وقوله (عَلى عَقِبَيْهِ) يبين أنه إنما أراد الانهزام والرجوع في ضد إقباله ، وقوله (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ) هو خذلانه لهم وانفصاله عنهم ، وقوله (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) يريد الملائكة وهو الخبيث إنما شرط أن لا غالب من الناس فلما رأى الملائكة وخرق العادة خاف وفرّ ، وفي الموطإ وغيره أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ما ريء الشيطان في يوم أقل ولا أحقر ولا أصغر منه في يوم عرفة ، لما يرى من نزول الرحمة إلا ما رأى يوم بدر» ، قيل وما رأى يا رسول الله؟ قال : «رأى الملائكة يزعمها جبريل».